جماعة المسلمين، في مثل هذه الأيام يتجاذب كثير من الناس أطراف الحديث عن أمر مهمّ، ألا وهو الحديث عما يُسمّى بالعطل الصيفية أو الإجازات السنوية، والتي أصبحت حقبة من الدّهر لا يمكن الاستغناء عنها بوجه من الوجوه.
فكم هو مبهج أن يرتاح الإنسان بعد كدّ، وأن يتنفّس بعد عناء، ولكن المؤمن الصادق مع ربّه يعرف كيف يرتاح ومتى يتنفس، المؤمن الحقّ ليس له راحة في هذه الدنيا حتى يطأ بقدميه جنّةً عرضها السماوات والأرض، أمّا ما دام في هذه الدنيا فهو في ابتلاء وامتحان، شعاره: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، اعبده مخلصًا في عبادته، اعبده صادقًا في عبادته، اعبده طالبًا لجنّته، اعبده كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ووالله لو عبدتَ الله ألف سنة ما عصيتَه فيها طرفة عين ما أدّيت شكر نعمة واحدة من نعم الله عليك، وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، لكن لا بأس من التزوّد بحلال الدنيا ليساعدَ على التزود للآخرة، وهذه هي نظرة المؤمن لهذه الإجازة، ولذلك فالناس في هذه الأيام منقسمون إلى قسمين:
قسم عرف أنّ هذه إجازة وضِعت بعد عناء فصل دراسيّ وعمل شاقّ، فأخذ أبناءه إلى رحلة لطيفة مباحة بعيدة عن الشبهات والمعاصي، أو أخذ أبناءه إلى بيت الله الحرام، أو إلى مسجد الحبيب محمد ، واغتنمَ إجازته في طاعة الله والتقرب إلى الله، فنعم القوم هم، وبارك الله في ابن تذكّر والده أو والدته فزارها في هذه الإجازة، وفي قريب تذكّر رحِمَه في هذه الأيام فوصَلها، فكسب بذلك الحسنى، ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
وقسم آخر عرَف أن هذه إجازة أيام وتنقضي، فنكس حساباته، وأعمى بصيرته، فقضاها في الحرام؛ ضياع ولهو وفجور، وعن ذكر الله سهو، خرجَ إلى حيث الفساد والإفساد وانكشاف محارم الناس، أضاع دنياه وأخراه، وترك فضائلَ الأعمال، فقد عقّ والديه، وقطع رحِمه، وأفسد أهله وعشيرته، فمثل هذا أقول له: اسمع إلى قول ربك: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، أصمّهم وأعمى أبصارهم، فيسمعون المواعظ ولا يتعظون، والزواجر فلا ينزجرون، كأن الكلام لا يعنيهم، وكأن الموت لا يأتيهم، تالله ووالله إنهم لفي ظلمات يعمهون، وفي ضلالة يسيرون، كأنما أشربت قلوبهم الدنيا فصارت لهم زادًا وشرابًا، وكأنما نسوا المرجع إلى الله، فكانوا لا يرجون حسابًا، قال : ((من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتِب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)).
جماعة المسلمين، اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ مهمة الإنسان في هذه الحياة وسرّ وجوده هي عبوديته لربه عز وجل، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أن يعبد الإنسان ربه حقَّ العبادة، فيوحّده في عبادته ولا يشرك به أحدا، هذا هو سبب خلقك أيها الإنسان، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، أي: لا يؤمَر ولا ينهَى؟ بل أنت في يومك وليلتك مأمور بأوامر يجب عليك فعلها، ومنهيّ عن نواهي يحرم عليك فعلها.
فإذا علمنا هذا فالواجب علينا جميعا أن نغتنم الفراغ الذي نعيشه بشيء ينفعنا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ، قال المفسر السّعدي رحمه الله: "أي: إنك ساع إلى الله، وعامل بأوامره ونواهيه، ومتقرّب إليه إما بالخير وإما بالشر، ثم تلاقي الله يوم القيامة، فلا تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل، بالفضل إن كنت سعيدا، وبالعقوبة العادلة إن كنت شقيا"، ويقول : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)). فإذا علمنا هذه الأسئلة فهل أعددنا لها جوابا؟ تمضي الأيام والسنون وتنقضي الأعمار والعبد في إعراض عن الله، نسي الله فأنساه نفسه، وغرته الأماني وطول العمر، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].
لماذا لا تشغل نفسك في هذه الإجازة بقراءة القرآن وحفظه وتعلم تجويده؟! ((خيركم من تعلّم القرآن وعلمه)). لماذا لا تخصّص لك في اليوم صفحة من القرآن تحفظها أو على الأقل خمس آيات تحفظها فيتحصّل لك في الشهر ثلاثون صفحة أو مائة وخمسون آية؟! لماذا لا تشغلون أنفسكم بطلب العلم الشرعي والتعلّم وحضور المحاضرات والاستماع لأشرطة أهل العلم من أمثال الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهم الله وصالح الفوزان وغيرهم؟! فمن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنة. أعمالٌ كثيرة في الإسلام، نوافل، فرائض، ذكر الله وغيرها كثير، فهل أعطيت من إجازتك للعبادة حظّا منها؟!
كثير من الناس يهوى السفر إلى الخارج، على اختلاف مذاهبهم وآرائهم حول السفر، هل فكرت في زيارة بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي ، أم أن قلبك لا يشتاق إليهما؟! قال : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد))، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يقول الله عز وجل: إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلى لمحروم)).
عباد الله، لقد عرف السلف الصالح رضوان الله عليهم أهمية حياتهم ووقتهم فاغتنموها خير اغتنام، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما ندمت على شيء ندامتي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي)، ويقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يَتبين حلو الثمار من مرها"، وكتب الأوزاعي إلى أخ له: "أما بعد: فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام".
فاتقوا الله يا عباد الله، واغتنموا أوقاتكم بالعمل الصالح وبالمرح المباح؛ تفلحوا في الدنيا والآخرة.
|