أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، إنّ من المسلَّمات عند المسلم أنّ هذا الدين دين شمولي، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، ويقول سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، فحياة المسلم كلها مرتبطة بهذا الدين، وليس ثمة أوقات يمكن أن يقول الإنسان: هذه لغير الله تعالى، فكل وقته لله؛ جِدّه وهزله، نومه ويقظته، حياته كلّها لهذا الدين كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ونحن قادمون ومقبلون على أوقاتٍ يفرغ فيها كثير من الناس، وهي أوقات الإجازات، والوقت نفيس، والمسلم مسؤول عن وقته يوم القيامة، ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيم علم؟)) رواه الترمذي والبيهقي وحسنه الألباني.
ربما يقول البعض: ما الذي نصنعه في الإجازات وهي في الغالب تكون أوقاتا للترويح والاستجمام بعد عناء التعب والكد والعمل؟! ربما يقول الآخر: هل تريدنا أن نبقى دائمًا في المسجد لا نخرج منه أبدًا؟! هل تريد منا أن نبقى دائمًا في قراءة وتلاوة وذكر؟! لا، ليس هذا هو المطلوب، بل هذا الدين دين شمولي يراعي هذه القضايا كلّها، والنبي يقول لحنظلة رضي الله عنه: ((يا حنظلة، ساعة وساعة)) رواه مسلم والترمذي وأحمد، وعندما مر النبي بالحبشة وهم يلعبون في المسجد قال: ((خذوا ـ يا بني أرفدة ـ حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة)) رواه أبو عبيد في الغريب وصححه الألباني في الصحيحة (4/443)، وكان النبي يمازح أصحابة ويمازحونه، وكان الصحابة يتمازحون ويترامَون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. السلسلة الصحيحة (1/797).
هذه هي الحياة الإسلامية المتكاملة التي لا يغلب فيها جانب على حساب جانب آخر، ولا يطغى جانب على جانب آخر، بل الحياة كلها مرتبطة بهذا الدين، بيد أن ثمة ضوابط وضعها هذا الدين حتى يكون هناك تميّز للمسلم، ويتميز ترويحه وهزله عن غيره من غير المسلمين الذين يلعبون ويروّحون على أنفسهم. هناك ضوابط شرعية يراعيها المسلم حتى لا يكون متشبّهًا بأعداء الإسلام من اليهود والنصارى، فيسير في ركابهم وفي فلكهم، وإن هذه الضوابط ـ أيها الإخوة الكرام ـ ينبغي أن تبقى معلمًا بارزًا لكل مسلم في الترويح عن النفس وفي الاستجمام وفي السياحة وفي الأمور كلّها.
فمن ذلك اختيار جماعة الترويح إذا أراد الإنسان أن يروّح عن نفسه، فلا بد أن يختار من يعينونه على الطاعة، فالمرء على دين جليسه، و((مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير)) رواه البيهقي وصححه الألباني في الصحيحة. فلا ينبغي للإنسان أن يختار في الترويح من لا يصلي ومن لا يذكر الله تعالى ومن لا يقدر للدين قدره.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ أن لا يكون هناك اختلاط بين الرجال والنساء في أثناء الترويح، فإن الاختلاط من أكبر الآفات، سيما في الترويح؛ لأن فيه هزلا وضحكا وإسقاطا للتكلف، وقد قال النبي : ((لأن يطعن أحدكم بمخيط حديد في رأسه خير له من أن يمسّ جسد امرأة لا تحلّ له)) رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني في صحيح الجامع، ويقول : ((ما تركت بعدي فتنة أشدّ على الرجال من النساء)) رواه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني. والميل للنساء ميل فطري، لا ينازع فيه أحد إلا من سُلِبت رجولته ومن لا يتأثر بالنساء، فالنساء شقائق الرجال، وميل الرجل للمرأة حتى يستمرّ النسل، فينبغي أن يبتعد في أثناء الترويح عن الاختلاط بالنساء الأجنبيات؛ لأن هذا فيه فتنة وفيه حضور للشيطان ونزغاته.
ومن ذلك عدم التبعية والتقليد لأعداء الإسلام في صوَر ترويحهم المستورَد من العري والتبرج وأفلام العبث والفوضوية، الذي ينبغي أن يترفّع عنها المسلمون الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا ورسولاً.
ومن ذلك اختيار وقت الترويح، عندما يريد الإنسان أن يستجمّ أو أن يروح عن نفسه فلا ينبغي أن يعتدي على الوقت المحرّم: أوقات العبادات، أوقات الذكر، أوقات الصلوات، لا ينبغي أن يكون الترويح فيها، كان النبي كما تقول عائشة رضي الله عنها: يضاحكنا ونضاحِكه، فإذا سمع الأذان فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، ويقول : ((كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام)) رواه مسلم. فلا ينبغي أن يكون العبث واللهو واللعب والترويح في أوقات الصلوات، سيما وأن فريقًا من الناس لا يحلو لهم اللهو واللعب والعبث إلا في أوقات الصلوات المفروضة.
ومن ذلك عدم إهدار أوقات الليل كلّها في السمر وفي العبث وفي الأمور المحرمة، فقد قال النبي : ((لا سمر إلا لمصل أو مسافر)) رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع، ويقول محذرًا من السمر الطويل إلى الفجر في عبث ولهو كما في مسند الإمام أحمد: ((ليبيتن أقوام من أمتي على أكل ولهو وغناء ثم يصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير)) حسنه الألباني. فينبغي أن ينتبّه العبد المسلم من هذه القضايا، سيما في الأفراح التي يمكث بعض الناس فيها إلى الساعة الثامنة أو التاسعة، ويسمعون الأذان: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" وهم في سمرهم وعبثهم وغنائهم ولهوهم وبعدهم عن الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك أن لا يكون الترويح في أوقات متعلّقة بحقوق العباد كالعمل الرسميّ مثلا أو غيره؛ لأن المؤمن يفي بالعقد، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].
ومن ذلك عدم الإفراط في استهلاك الوقت المباح؛ لأنه مسؤول عنه أمام الله يوم القيامة، وقد سبق الحديث الآنف الذكر: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع))، فلا يسرف الإنسان كل وقته في العبث وفي اللهو وفي الترويح، بل كما قال النبي : ((يا حنظلة، ساعة وساعة)).
ومن الضوابط الشرعية ـ يا عباد الله ـ مراعاة اللباس عند الترويح، مراعاة الزي الذي يلبس عند الترويح، فينبغي أن يكون ساترًا، لا ينبغي أن يكون المؤمن عند الترويح متعريًا متشبها بأعداء الإسلام، وقد روي في سنن الترمذي عن النبي قوله: ((إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الجماع وعندما يقضي الرجل حاجته)) رواه الترمذي وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((غطّ فخذك؛ فإن فخذ الرجل من عورته)) رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني، وقال: ((لا تنظر إلى فخذ حي أو ميت)). فعورة الرجل من السرة إلى الركبة، ولا يجوز أن يكشف ما دون السرّة أو ما فوق الركبة، سواء كان في لعب أو غيره. والمرأة المسلمة كلّها عورة عندما تكون أمام الأجانب، وعندما تكون أمام النساء لا يجوز لها أن تظهر ما بين السرّة والركبة كما قال العلماء ذلك. كما لا ينبغي للمرأة المسلمة أن تتزيَّا بزيّ الكفار في لباسها عند الترويح وعند الاستجمام وعند اللّعب، أن لا تستورد أزياء من الشرق أو الغرب تظهر الإبطين والفخذين والصّدر وغير ذلك من الأمور ـ يا عباد الله ـ التي فيها تشبّه بأعداء الإسلام، ((ومن تشبه بقوم فهو منهم))، والمرء مع من أحب يوم القيامة، والمسؤولية على أولياء الأمور، ينبغي أن يراعوا النساء في لباسهن؛ لأنه برزت في هذه الأعصار ألبسة مستورَدة يراها النساء عبر القنوات وعبر المجلات وعبر اختلاطهن بغيرهن، لا ترضي الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ مراعاة مكان الترويح، إذا أراد الإنسان أن يروح عن نفسه فلا يعتدي على الناس في الطرقات والأماكن العامة، فقد قال النبي : ((من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)) رواه الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، وحذر النبي من أذية الآخرين في الأماكن العامة فقال: ((إياكم والجلوس في الطرقات))، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا، قال: ((إن أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقّه))، قيل: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني. فينبغي أن يراعي الإنسان الأماكن العامة، فلا يعتدي عليها، ولا ينظر إلى المحرمات، فالعين تزني وزناها النظر، وأيضًا لا يؤذي الناس بإلحاق الأذى في الأماكن العامة، فقد قال النبي : ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق وتحت ظل الشجر)) رواه أبو داود وحسنه الألباني، فالأماكن التي يرتادها عامة الناس لا ينبغي أن يلحق الإنسان الأذى بها، فينبغي أن يكون المسلم محافظًا على حقوق غيره، وأن يترك المكان أنظف مما كان بالقدر الذي يتمنى أن يراه سابقًا.
ومن ذلك سلوك الترويح من المحافظة على ذكر الله، المحافظة على الصلاة، المحافظة على غض البصر، عدم الاعتداء على الآخرين، عدم انتهاك محارم الله سبحانه وتعالى، مراعاة الأخلاق العامة عند المنافسات؛ فلا غشّ، ولا غصب، ولا أخذ لأموال الناس بالباطل، مراعاة الصحة العامة، وهذه من شمولية هذا الدين، يقول النبي : ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه)) رواه أبو داود وصححه الألبانيز
ومن ذلك عدم الإسراف في الإنفاق على الترويح، فإن الإسراف ممقوت، والمبذرين إخوان الشياطين، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، ولا ينبغي أن ينفق الإنسان على المحرمات؛ لأنه مسؤول عن هذا المال يوم القيامة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|