أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها الناس، في هذه الأيام تشتعل العزائم وتتوقد الهمم وتتضافر الجهود؛ استعدادًا لما يسمى بالامتحانات. تتهيأ المدارس والمؤسسات العلمية بجميع مرافقها وأعضائها، ويهتم الآباء بتوجيه أبنائهم وتشجيعهم، وينشط الطلاب للمذاكرة سهرًا وجدًا واجتهادًا.
العقول الخاوية تصبح بالامتحانات واعية، والنفوس الباردة تصير بالامتحانات جادة، والهمم الفاترة تتحول لتكون عالية صامدة. إن الامتحانات تحدث نقلة في حياة الناس عجيبة؛ فتجد أكثر الناس مهتمين بها، معظمين لها، حريصين عليها.
لماذا كل هذا الاهتمام بالامتحانات؟! لقد آمن الجميع أنه اجتياز طريقٍ للمستقبل، أو ضمان الوظيفة، أو نافذة للرزق، أو كسب السمعة وحسن الصيت، لذلك فإن تحطيم أستار الكسل والضعف والبرود في الامتحانات لم يعد غريبا في حياة الناس، بل قل: حتى في حياة الكسالى والباردين.
أيها الإخوة الكرام، لقد باتت النظرة التربوية للامتحانات مفرطة عندما بالغت في الاهتمام بها وحشد الطلاب لها، حتى صار الشغل الشاغل هو الامتحانات، وغدا المتفوق والمهمل والجاد والكسول يدركون شدة وطأة الامتحانات وعظيم الخيبة عند إهمالها أو عدم الاستعداد لها.
فأصبحت الامتحانات حينئذ قضية كبرى وغاية منشودة، أربت على الرسالة التربوية الجادة من إصلاح الجيل وبناء العقول وتوثيق عُرى الدين ومكارم الأخلاق.
فيجب علينا كمسلمين ـ متعنا الله بالعقول والبصائر ـ أن نعتدل في نظرتنا للامتحانات، ونوصي أبناءنا والتلاميذ بالجد والاجتهاد فيها، دون إغفال جوانب الإصلاح والتربية، التي هي مقصود المدارس والمؤسسات التعليمية.
نحن لا نريد أن ترتفع المعدلات والدرجات مع انخفاض التديّن والأخلاق في حياة هؤلاء الناجحين. ولربَّ حائزٍٍ على تقدير عالٍ ويوضع في لوحة الشرف وهو لا يمتّ للخير والخلق بصلة.
في الامتحانات يدخل طلابٌ المساجد، لم يكونوا يعرفونها من قبل، مظهرين النسك والخير والضراعة لله، ابتغاء النجاح والتفوق، وهذه فرصة مهمة للمعلمين والمربين وأئمة المساجد، أن يزيدوا في إيمان هؤلاء ويحرصوا على تعليقهم بالله، وربط مستقبلهم بتوفيق الله ورعايته وتأييده، وأنهم فقراء إليه، محتاجين لفضله وإنعامه.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأوّل ما يقضي عليه اجتهادهُ
وفي ظلّ انفِتاح هذا العصر تتناءى طوائف غير قليلة عن المساجد، ولا تبالي بأهمية التوكّل على الله وسؤاله التوفيق والنجاح.
وهؤلاء هم في أمسّ الحاجة إلى النصح والتذكير، وحين نذكر قبيل الامتحان بأهمية الامتحان وضرورة التهيؤ له نذكر بأهمية الصلاة واللجوء إلى الله، فمنه يُستمد النجاح والتفوق والتميز، فهو أهل الفضل والمن تبارك وتعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].
أيها الإخوة، إن المتأمّل لمسألة الامتحانات يدرك لها فوائد كثيرة غير النجاح والشهادة، والتحرر من الدراسة ورهق المذاكرة، فمن فوائدها: إقبال التلاميذ على المساجد، ودعاؤهم الله كثيرا بالنجاح والتوفيق، وفي ذلك تربية إيمانية لا تخفى، جدير بنا أن نستثمرها وننميها.
ومن فوائدها: استيقاظ الهمم والعقول، وتحولها إلى منابع تفيض بالجد والاهتمام والاستبصار.
ومنها: تفجر الطاقات عن مظاهر من العمل والنبوغ والصمود؛ من أجل نيل رمز النجاح ووسام التفوق.
ومن فوائدها: العزوف عن اللعب واللهو، فتقلّ العناية بالكرة على سبيل المثال عند كثيرين أيام الامتحان.
ومن فوائدها: استطعام الحياة الجادة، وترك حياة الكسل والنوم والبطالة، وفي ذلك تربية للإنسان على الدأبَ والصبر ومقاومة شدائد الحياة.
ومنها: إيقان الجميع بأن لكل ثمرة ولذة نصَبًا وجهدًا، وأن الأمنيات لا تنال بالأحلام والتخيلات، وإنما بالهمم العالية والنفوس الدائبة.
وما نيلُ المطالـب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
فمن استطاب الراحة واستلذَّ بالنوم وارتاح للفراغ فهذا لا يصعد عَلما ولا يحقّق أملا. يقول أحد الأدباء الفضلاء: "لو أن همم أبنائنا للعلم كهمهم في الامتحانات لأخرجت الأمة علماء كثيرين، ولا نريد في كل أسبوع عالما، بل في كل شهر فحسب".
أيها المسلمون، إن قضية الامتحانات لا تعدو أن تكون قضية دنيوية، فما ينبغي إعطاؤها أكثر من حجمها، أو التهويل من شأنها على حساب قضايا جليلة في حياة الناس، ولا يليق بمؤمن بالله واليوم الآخر أن تنسيه الدنيا الدارَ الآخرة وفيها الفوز والفشل والنجاح والخسارة، وقد كان من دعاء النبي المأثور: ((اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)). وكم من ممتحن لم يدخل الامتحان حتى وافاه الأجل، وكم من ناجح متفوّق حُرِم لذة التفوّق ولم يرَ الشهادة. فينبغي علينا كمسلمين أن نعطي الأمور حجمها، وأن لا تنسينا دنيانا أخرانا، فإن النجاح الحقيقي هو النجاح في امتحان يوم القيامة، حينما تسودّ وجوه وتبيض وجوه، وتعلو أنفس وتسقط أنفس، فهنالك الحياة الحقيقية والفرح الدائم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الفائزين بجنات عدن، الناجين من النار، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
|