أما بعد: أوصيكم ونفسي ـ أيها المسلمون ـ بتقوى الله في السر والعلن, وأسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ثم أما بعد: يقول شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله كما وصفهم الله به في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وطاعة للنبي : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة ولإجماع من فضائلهم ومراتبهم.
ويفضّلون من أنفق من قبل الفتح ـ وهو صلح الحديبية ـ وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل، ويقدّمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وبأنه لا يدخل النار أحدا بايع تحت الشجرة، كما أخبر به النبي ، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة، ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار... ـ ثم قال: ـ ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله، ويحبون أهل بيت رسول الله ويتولّونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله حيث قال يوم غدير خم: ((أذكركم الله في أهل بيتي))، وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي))...
ثم قال: ويتولّون أزواج رسول الله أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصًا خديجة رضي الله عنها أمّ أكثر أولاده وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصِّدِّيقة بنت الصديق رضي الله عنهما التي قال فيها النبي : ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)).
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجرة بين الصحابة" انتهى كلامه.
أيها الناس، إن ما مضى من كلام شيخ الإسلام كلام عظيم، وهو من أعظم الأصول التي يعتقدها أهل السنة والجماعة والدين الحق.
فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهية، وسلامة الألسن من كل قول لا يليق بهم.
فهم يحبون أصحاب النبي ، ويفضّلونهم على جميع الخلق؛ لأن محبتهم من محبة رسول الله، ومحبة رسول الله من محبة الله، وألسنتهم سالمة من السب والتفسيق واللعن والتكفير.
سبحان الله! كيف يكون هذا وهم خير القرون في جميع الأمم كما صح وصرح به رسول الله حيث قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) متفق عليه. كيف يكون هذا وهم الواسطة بين رسول الله وبين أمته، فمنهم تلقَّى المسلمون الشريعة. سبحان الله! أنُسِي ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة؟! أنسي ما قاموا به من نشر الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب؟!
ووالله رب العالمين، لا يعرف هذا إلا من هداه الله وتجرد من الهوى وعاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم واستجابتهم لله ولرسوله .
فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت, بل نرى أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوق: حق الصحبة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله . ووالله، لو كان يعقل أهل الضلال والهوى لعلموا أن القدح بأصحاب النبي إنما هو قدح في النبي ، بل وفي علي.
كيف يعقل أن يؤمّر النبي على الحجّ وغيره من يعلم أنه كافر؟! إن من قال هذا فقد زعم أن النبي خائن والعياذ بالله. كيف يطعن في رجلين هما في حياته وزيراه، ومن بعد مماته ضجيعاه؟! وكيف يعقل أن يبايع أبا الحسن أمير المؤمنين وسيّد الشجعان وليث الوغى بحر العلوم من ليس بأهل لخلافة النبي .
ويا ليت أن أهل الغواية والضلال يعلمون بأن تكفير معاوية رضي الله عنه والطعن فيه إنما هو طعن ورمي بالخيانة لسيد شباب أهل الجنة وسبط رسول الله الحسن بن علي، فكيف يتنازل عن الخلافة العظمى لرجل كما زعموا؟! اللهم إنا نبرأ إليك مما يقول هؤلاء الضالون، ونعوذ بك اللهم من حالهم ومآلهم.
عباد الله، إن ما سبق من كلام شيخ الإسلام لا يكفي لشرحه خطبة ولا خطبتان، ولكنني أتكلّم عما تيسر ورأيت الحاجة إليه داعية مع أنه كله مهمّ.
أما قوله: "ويحبون أهل بيت رسول الله " أي: من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله ، ويحبونهم لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله ، ولا يكرهونهم أبدأ. ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: إن كل من أحب أبا بكر وعمر فقد أبغض عليًا، وكأن أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب، مع أنه تواتر النقل عنه رضي الله عنه أنه كان يثني عليهما على المنبر، بل قال: (والله، لا يزعم أحد أنني أفضل من أبي بكر وعمر إلا جلدته حدَّ الفرية).
فنحن نقول أيها الناس: إننا نشهد الله على محبة آل بيت رسول الله وقرابته، نحبهم لمحبة الله ورسوله.
وليُعلَم أنَّ مِن أهل بيته أزواجَه بنصّ القرآن، فقد قال تعالى بعد السياق الذي فيهن: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، فهن داخلات في أهل بيته بلا ريب.
وأخصّ الآل والقرابة فاطمة الزهراء وعلي والحسن والحسين والعباس وأبناؤه رضي الله عن الجميع.
فنحن نحبهم لقرابتهم ولإيمانهم، أما الكفار من آله كأبي لهب فلا يجوز بحال من الأحوال أن نحبَّه، بل يجب علينا أن نكرهه لكفره ولإيذائه للنبي ، وكذلك أبو طالب نكرهه لكفره، لكننا نحب أفعاله التي أسداها إلى رسول الله من الحماية والذبّ عنه، وبها شفع له، فهو أدنى أهل النار عذابا، فهو في ضحضاح من النار، كما قال الصادق البار.
وقوله رحمه الله: "ونواليهم" أي: أننا نناصرهم ونعاضدهم ونصدق لهم في المحبة.
وأما قوله : ((أذكركم الله في أهل بيتي)) فقد قاله في غدير خم، وغدير خم موضع في الطريق بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل فيه الرسول منزلا في رجوعه من حجة الوداع، وخطب الناس فيه، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: ((أما بعد: ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله وفيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به))، فحث على كتاب الله وغب فيه، ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)) رواه مسلم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
وقوله : ((أذكركم الله)) أي: أذكِّركم وأخوّفكم انتقامه إن أضعتم حقّ آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم بحقهم.
إذا فعقيدة المسلمين الحقة وعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لآل البيت أنهم يحبونهم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يبرؤون ممن يغلو فيهم، كما غلا السبئيّة في عليّ حتى ألهوه، فحفر وشمّر وحرقهم بالنار، والقصة مشهورة معلومة.
أيها الناس، لقد أطلت عليكم الكلام، والوقت يمضي بسرعة، وللحديث بقية في الخطبة الثانية إن شاء الله.
يقول الصادق المصدوق: ((كل ابن ادم خطاء، وخير الخطائين التوابون)).
فاستغفروا الله أيها المسلمون، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
|