لما دخل النبي مكة فاتحًا حرص على أن لا تراق فيها الدماء، وأن لا تُزهق فيها الأرواح، إلا أن بعض المشركين رفضوا هذا السلام الممنوح لأهل مكة، وقرّروا المقاومة لآخر رمق، فلما لم يستطيعوا تركوا جزيرة العرب فارِّين بكفرهم إلى أرض أخرى.
إن النبي لم يكن طالبَ ثأر ولا ناشدَ قصاص، وإنما همّه أن يفتح أقفال القلوب، وأن ينقذ التائهين الحيارى، وأن يعالج العنادَ بالرفق، وأن يَلقى الأحقاد بالعفو، وأن يحبّب الناس في الإسلام، وأن تقرّ عيناه برؤيتهم يدخلون فيه أفراد أو أفواجًا.
إنه رحمة مهداة، إنه رسول يقود العباد إلى ربهم، وليس بشرًا ينزع إلى التسلّط والجبروت، ما انتقم لنفسه قط، ولا طلب لها علوًا في الأرض، ولنسرد الشواهد على ذلك من أحداث السيرة.
كيف استقبل النبي إسلام عكرمة وصفوان؟! انظر كيف تعامل النبي مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، قبل إسلامهما، هذا الإسلام الذي تأخّر كثيرًا، وسبقته عداوات رهيبة.
1- إسلام صفوان:
جاء عمير بن وهب إلى النبي يقول له: يا رسول الله، صفوان بن أمية سيّد قومي، خرج هاربًا ليقذف بنفسه إلى البحر وخاف أن لا تؤمّنه، فأمِّنه فداك أبي وأمي، فقال رسول الله : ((قد أمّنته))، لكن صفوان لم يطمئنّ، وطلب من عمير علامة تشعِره بالأمان، فقال رسول الله لعمير: ((خذ عمامتي)) التي كانت على رأسه يوم الفتح، فأراه إياها. ورجع صفوان وحضر معركة حنين مع المسلمين، ورآه النبي عند توزيع الغنائم يرمق بإعجاب واديًا مليئًا بالإبل والغنم، فقال له النبي : ((يعجبك ذلك؟)) قال:نعم، قال: ((هو لك))، فقال صفوان: ما تطيب نفس أحد بمثل هذا العطاء إلا نفس نبيّ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدًا رسول الله.
كان الرجل في ريبة من أمرِه، لعلّه كان يحسب محمدًا طالبَ ملك أو عاشقَ مال وجاه، فلمّا رأى نفس النبي لا تطلّع فيها ولا تعلّق لها بشيء ـ جلَّ أو هان ـ من هذا الحطام، أدرك أنها النبوة فأعلَن للفور تصديقه بها.
2- إسلام عكرمة:
أما قصة إيمان عكرمة فهي أجدر بالتأمّل الطويل، جاءت امرأته أم حكيم وكانت أسلَمت يوم الفتح، فقالت: يا رسول الله، هرب عكرمة خائفًا أن تقتله فأمّنه، فقال: ((هو آمن))، وأدركت المرأة زوجها عند الساحل، وقد ركب سفينة يريد الإبحار بها بعيدًا، فنادته قائلة: جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك وعُدْ معي فقد استأمنت لك رسول الله. قال ابن عساكر: فلما دنا من مكة قال رسول الله لأصحابه: ((يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا، فلا تسبوا أباه؛ فإنّ سب الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميت)). ولما أقبل عكرمة وثب إليه النبي متعجلاً ليس عليه رداء من فرحه بمقدمه وعرض عليه الإسلام، فقال عكرمة: والله، ما دعوتَ إلا إلى الحق وإلى كل أمر حسن جميل، قد كنت والله فينا قبل دعوتك هذه أصدقنا حديثًا. وأعلن إسلامه في مشهد نابض بالصدق، كاشف عن مستقبل عامر بحب الله ورسوله. وكان مطأطئًا رأسه حياء من النبي ثم قال: يا رسول الله، استغفر لي كلّ عداوة عديتكها أو مركب أوضعت فيه أريد إظهار الشرك والصدّ عن سبيلك، فدعا له رسول الله ، فقال عكرمة: أما والله، ما أدع نفقة كنت أنفقها في الصدّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلت في الصدّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
بهذا الخلق العظيم كان صاحب الرسالة الخاتمة يصنع السلفَ الأول، إنه لم يصنعهم على هذا الغرار ليؤمنوا به وحسب، إنه يريد أن يؤمنوا وأن يحملوا إلى غيرهم الإيمان وأن يزيحوا من أمامه العوائق.
فلننظر كيف وفّى عكرمة بعهده لرسول الله ، فقد حدّثنا التاريخ أنه عندما التقى الروم والعرب في معركة اليرموك والروم أضعاف المسلمين أربع مرات، كان الموقف صعبًا جدًا، وتهشمت صفوف أمام وطأة الرومان، وزلزلت أقدام البعض. وهنا صاح عكرمة: قاتلت رسول الله وأفرُّ اليوم؟! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فانضمّ إليه أربعمائة من طلاب الشهادة، فقاتلوا حتى قتل منهم خلق كثير، وانهزم العدو هزيمة محت دولة الروم من الشام كله.
إن تربية محمد لهذا الجيل معجزته الكبرى بعد القرآن الكريم، وإنك لتلمح آثار النبوة في شمائل أولئك الرجال الأفذاذ، لقد أشربوا منه حب الله وطلب رضاه والشوق إلى لقائه والطمع في جنته، فأقدرتهم هذه العواطف الجياشة الصادقة على تهديم أسوار الباطل وكانت عالية عاتية، وتلاشت إمبراطوريات استعصت على الفناء قرونًا عديدة.
|