أيّها الناس، اتقوا اللهَ حق التقوى، فإن تقوى الله تعالى خيرُ زادٍ يُتزوَّدُ به للدار الآخرة، وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يأُوْلِي ٱلألْبَٰبِ [البقرة:197]، وهي وصيةُ اللهِ تعالى للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء:131].
عباد الله، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ)).
فلقد أبطل دينُنا الحنيف الكثيرَ من المسائل المخالفة التي كان عليها أهل الجاهلية من المعتقدات الباطلة والأوهام الزائفة؛ لما لها من الخطر الكبير على الخُلُق والعقل والسلوك، وجاء الكتابُ الكريم والسنة النبوية المطهرةُ بنفي هذه الخرافات والاعتقادات الباطلة التي تؤثر في القلب وتُضْعِف الظنَّ الحسَنَ بالله، بل قد تزيله تماما.
فقوله : ((لا عدوى)) يعني: لا عدوى مؤثّرة بطبعها؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن العدوى تؤثر بنفسها تأثيرًا لا مردَّ له، وتأثيرًا لا صارفَ له، وأن العدوى ناقلةٌ للمرض لا محالة و لا بد أن يكون؛ مع أنه لا ينفي أصلَ وجود العدوى، وهي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بسبب المخالطة بينهما، فإنّ الانتقال بسبب المخالطة حاصلٌ ومُلاحَظٌ ومَشْهُود؛ لذا فقد ثبت عنه أنه قال: ((لا يُورِد ممرضٌ على مُصِحّ، ولا يُورد مصحّ على ممرض)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، وقال : ((فِرَّ من المجذوم فِرارَكَ من الأسد)) رواه أحمد عن أبي هريرة . ومع هذا فإنّ المرض لا ينتقل إلا بقضاء الله وقدره، وهذا ما لا يعتقده أهلُ الجاهلية؛ ولذلك لما قال النبي : ((لا عدوى، ولاصفر، ولا هامة)) قال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعيرُ الأجربُ فيدخل بينها يُجْرِبُها؟! فقال : ((فمن أعدى الأول؟!)) متّفق عليه من حديثِ أبي هريرة . وقوله: ((فمن أعدى الأول؟!)) أي: أنَّ الأول إنما جَرُبَ بقضاء الله وقدره.
ثم قال : ((ولا طِيَرة)) أي: لا تشاؤم؛ لأنَّ التشاؤم أمرٌ كان يعتقده أهلُ الجاهلية، بل ربما لم تسلم منه نفسٌ كما قال ابن مسعود : (ما منّا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) رواه أبو داود والترمذي. وقوله: (ما منا إلاّ) يعني: ما منا إلا تخالطُ الطيرةُ قلبَه، وربما وقع التطيرُ في نفسه.
والتطير أو التشاؤم يكون بالأشخاص، وخصوصًا أهل الاستقامة والصلاح كما تشاءم قومُ موسى بنبيّهم موسى عليه السلام، كما في قول الله تعالى: وإنْ تُصِبْهُم سيِّئةٌ يَطَّيروا بِمُوسى وَمَن مَعَهُ [الأعراف:131]، أي: أنه إذا جاءَهُمُ البلاءُ والجدْبُ والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه، فأبْطل الله هذه العقيدةَ بقولهِ: ألاَ إنما طائِرُهُم عِنْدَ اللهِ ولكنَّ أكْثَرَهُم لا يَعْلَمُون [الأعراف:131]، أي: ما أصابهم من البلاء والجدب والقحط ليس من موسى وقومِه, ولكنه من الله الذي قدَّره، ولا علاقة لموسى وقومه به. وقد يقع به الكثيرون من المسلمين اليوم، فسبحان الله! متى يكون من تمسّك بشرع ربه وبسنة نبيه شؤمًا على الناس والمجتمع؟!
ويكون التطيرُ أو التشاؤم بأشياء قد يراها الشخصُ فيتشاءم منها، كرؤية الرجل الأعور أو الأعرج أو الأشل, وبعضُهم يتشاءم عندما يسمَّى المولودُ الجديدُ باسمه، أو يتشاءم برؤية نوعٍ من أنواع الطيور؛ لذا قال : ((ولا هامَة))، والهامة طير معروف يقال له: البومة، تزعم العرب أنه إذا قُتِل القتيل صارت عِظامُه هامةٍ تطير وتَصْرُخُ حتى يُؤخذَ بثأره, وربما اعتقد بعضُهم أنها روحُهُ, وبعضهم يعتقد أنها إذا وقعت على بيتِ أحدِهِم ونَعَقَتْ فهذا دليلٌ على قُرْبِ أجَلِه, ومنهم من يتشاءمُ بالغراب, ومنهم من يتوقف سفرُهُ على رؤية طير؛ فإن رأى الطيرَ طارَ يَمْنةً تفاءل به وسافر، ويُسَمُّونَهُ: السَّانِحَ, وإن رآه طارَ يَسْرَةً تشاءم به وامتنع عن السفر، ويسمونه: البَاِرحَ, وبعضُهم يُرَدِّدُ عِباَرةَ: "خيرٌ يا طير" تشاؤمًا أو تفاؤلاً؛ وهذا كله بلا شكّ تكلفٌ لا أصل له وعقيدة باطلة, وكما قال الأول:
الزجْرُ والطيرُ والكهانُ كلُّهُمُ مُضَلِّلُونَ ودُونَ الغيبِ أقفالُ
ومنهم ـ يا عباد الله ـ من يتشاءمُ بالأزمنة كالأيامِ والشهور؛ فيتشاءم من يوم الأربعاء، فيعتقد أنه يومٌ يحصل فيه من السوء ما لا يحصل بغيره من الأيام، وربما صرفهم ذلك عن أن يمضوا في شؤونهم؛ وبعضُهم يدّعي زورًا أنه يَنْزِلُ في آخرِ أربعاء من صفر داءٌ من السماء، فَيكْفِئونَ قدورَهم ويُغَطُّونَ أوانيهم خوفا من أن ينزل ذلك الداء المزعوم فيها، وهذا اعتقادٌ فاسدٌ وتشاؤمٌ مذموم.
ومنهم من يتشاءمُ بشهر صفر، وهو الشهر المعروفُ الذي نستقبلُ أيَّامهُ, فيتشاءمون به، ويعتقدون أنه شهرٌ فيه حلولُ المكارِهُ و المصائب، فلا يتزوّج من أراد الزواج فيه لاعتقاده أنه لا يُوَفَّقُ، ومن أراد تجارةً فإنه لا يُمْضِي صفْقَتَهُ فيه لاعتقاده أنه لا يَرْبَح، ومن أراد التَّحَرُّكَ والمْضِيّ في شؤونه البعيدة عن بلده فإنه لا يذهب في ذلك الشهر لاعتقاده أنه شهرٌ تحصلُ فيه المكارِهُ والموبقات؛ ولهذا أبطل عليه الصلاة والسلام هذا الاعتقادَ الزائِفَ بقوله : ((ولا صفر))، فشهرُ صفَر شهرٌ من أشهُر الله وزمان مِن أزمنة الله، لا يحصل الأمرُ فيه إلا بقضاء الله وقدَره، ولم يختصّ الله جلّ وعلا هذا الشهر بوقوع مكارهَ ولا بوقوع مصائبَ، بل حصلت في هذا الشهر في تأريخ المسلمين فتوحاتٌ كبرى، وحصل للمؤمنين فيه مكاسبُ كبيرةٍ, وليس بشَهر شؤم، وإنما الشؤم في معصية الله تعالى واقترافِ الذنوب؛ فإنها تسخط الله عز وجل، فيَشْقَى مرتكبها في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن عبده سَعدَ في الدنيا والآخرة، فلا يردّ القدر والقضاء إلا الدعاء، ولا تُسْتَدْفعُ أسبابُ الهلاك وأسبابُ الفساد في النفس أو في المجتمع إلا بطاعة الله جل وعلا،.
فاتقوا الله عباد الله، واحْرِصُوا على تحقيق توحيدِكُم وسلامة عقيدَتِكُم.
اللهم أحينا حياة السعداء، وأمتنا ممات الشهداء.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
|