أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، إذ بها الملتزَم، وعليها المعوَّل والمعتَصم، فبتقوى الله سبحانه تصلُح الأحوال وتحسُن العاقبة ويحلو المآل.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّكم وما تأمَلون من هذه الدنيا ضعفاء مؤجَّلون ومدينون مطالبون، ومِن المعلوم شرعًا أنّ مطلَ الغنيّ ظلم، فإنّ الأجلَ منقوص والعملَ محفوظ، فلِلَّه كم من دائب مضيِّع، وكم من كادِح خاسر.
وإنّكم ـ أيّها المسلمون ـ قد أصبحتم في زمنٍ لا يزداد الخير فيه إلا قلَّة، ولا الشرّ فيه إلا كثرة، ولا الحقّ فيه إلا خفاءً، ولا الباطل إلا شيوعًا. لقد كثر الطَّمَع، واشتدَّ الجشع، وظهر الربا، وكثُر الغشّ، وشاعتِ الرِّشوة، وعمَّ الغُلول.
ألا إنَّ الواحدَ منّا يرى في غير ما سبيلٍ طغيانَ النفاق، وانتشارَ الكذب والرياء والسمعة، واعتلاءَ صيحاتِ المتمرِّدين عن دينهم والمستهترين بشريعتهم، ومَن قلَّب طرفَ الرامِق بعين بصيرته فإنّه لا يبصر إلا فقيرًا يكابد فقرًا، أو غنيًّا بدّل نعمة الله كفرًا، أو بخيلاً اتَّخذ البخلَ بحقِّ الله وفرًا، أو متمرِّدًا عن حدود الله كأنَّ من أذنيه من سمع المواعظ والزواجر وقرًا، إلاَّ من رحم ربّي وقليلٌ ما هم.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهارًا.
لقد رجَع فئامٌ من الناس على أعقابهم، فغالتهم السُبل، واتَّكلوا على الولائج، فاتّخذوا من دون الله ورسولِه والمؤمنين وليجة، ولقد وصل أقوامٌ غيرَ الرَّحم، وهجروا السبَب الذي أمرهم الله أن يوصَل، فنَقلوا البناءَ عن رَصِّ أساسِه، وبنَوه في غير موضِعِه، فمِن منقطعٍ إلى الدنيا راكن، أو مفارقٍ للدنيا مباين.
ومحصِّلة تلك الأمور ـ عبادَ الله ـ خفاءٌ في الحقّ، وخمولٌ في الذكر، وقسوةٌ في القلب، ووحشةٌ بين العبد وبين ربِّه، ومنعٌ لإجابة الدعاء، وكسفٌ في البال، وضنكٌ في المعيشة، ومَحْقٌ في البركةِ والرزق والعمُر، وحرمانٌ في العلم؛ إذ تتولَّد هذه كلُّها من معصيةِ الله ومِن الغفلة عن ذكره، كما يتولَّد الزرع من الماء والإحراق عن النار، فاستبدَل أقوامٌ شرًّا بالذي هو خير، وجهلاً بما هو عِلم ونُور، وانتظَروا بسُوء أفعالهم الغِيَر انتظَارَ المجدِب المطرَ من السماء، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، هو المستعانُ وعليه التّكلان.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. اللهمّ إنَّا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهارًا.
أيّها المسلمون، إنَّ اللهَ جلّ وعلا جعل للنّاس مع الماء أحوالاً متعدِّدة، فقد جعل من الماء كلَّ شيء حيّ ليختبر عبادَه ويبتليَهم؛ أيشكرون أم يكفرون؟ فأنزله سبحانه من المزنِ ليشربُوا امتنانًا من الباري سبحانه على عباده، أَفَرَءيْتُمُ ٱلْمَاء ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]. وجعل سبحانه الماءَ مِحنةً وبلاءً وعقوبةً يُرسلها للعاصين من عباده والمعرضين عن هديه وشريعته كما فعل جلّ وعلا بقوم نوح وقوم سبأ، كما قال سبحانه عن قوم نوح: فَفَتَحْنَا أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى ٱلمَاء عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11، 12]، وقال عن قوم سبأ: فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ [سبأ:16]، وقد جاء في مسند أحمد أنّ النبيَّ قال: ((لا تقومُ الساعةُ حتى يمطَر الناسُ مطَرًا لا تُكِنُّ منه بيوت المدَر، ولا تُكِنّ منه إلا بيوتُ الشعر)). كما جعل سبحانه من أحوالِ الماء أن ينزَّل من السماء فتكونُ الأرض له كالقيعان، لا تحبسُ ماءً ولا تنبِتُ كلأً، وهذه الحالُ هي السَّنَة التي ذكرها النبيّ بقوله: ((إنّ السَّنَة ليس بأن لا يكون فيها مطر، ولكنَّ السّنة أن تمطِر السماء ولا تنبتُ الأرض)) رواه أحمد في مسنده، كما جاء في المسند أيضًا ما يدلّ على أن قلَّة الأمطار وشحَّها وعدمَ الإنبات من علامات الساعة، فقد قال أنس رضي الله تعالى عنه: كنّا نتحدَّث أنه لا تقومُ الساعة حتّى لا تمطِر السماء، ولا تنبتَ الأرض، وحتى يكون لخمسين امرأة القيّمُ الواحد. ثمّ إن البركةَ كلَّ البركة ـ عبادَ الله ـ في نزول المطر الذي تَنبُت به الأرض وتحيى به الموات، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُورًا لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـٰمًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا [الفرقان:48، 49].
عبادَ الله، إنّكم شكوتُم جدْبَ دياركم واستئخارَ المطر عن إبّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعُوه، ووعدَكم أن يستجيبَ لكم، ولقد كان آباؤنا وأجدادنا يخرُجون للاستسقاء تائبين منيبين راجين، فكان لا يخلُفهم المطرُ غالبًا، ولربّما نزل عليهم وهم في مصلاَّهم، ولقد كانوا مع فقرِهم وقلَّةِ ذات اليد عندهم أكثرَ بركةً منَّا وأوسعَ عافية، وذلك بسبب قربهم من الله وقلّة معاصيهم وشيوع العدلِ بينهم والفرار من الظُّلم فرارَ الصحيح من الأجرب، فلذلك حصل لهم ما حصَل من سَعَةٍ في الدين وبركةٍ في الرزق، ولقد قال أبو داود صاحب السنن في سننه عن نفسه: "شبرتُ قثّاءَةً بمصر ثلاثةَ عشر شبرًا، ورأيتُ أترجَّةً على بعير بقطعتين، قُطعت وصُيِّرت على مِثل عِدلين"، وذكر المحدِّث الحافظ معمر بن راشد أنّه رأى باليمن عنقودَ عنب ملءَ بغلٍ تامّ، وقد جاء في مسند أحمد أنه وُجد في خزائن بني أميّة حِنطةٌ الحبَّةُ بقدر نواةِ التَّمر، وهي في صُرَّة مكتوب عليها: "هذا كان ينبُت في زمنِ العدل". فالخيْر والبركة والوفرة أمورٌ مرهونة بالعدل والحكمِ بشريعة الله ورفع المظالم عن الناس وإقامة الحدود كما أوجب الله جلّ وعلا، ولذلك جاء في صحيح مسلم حكايةُ ما يكون في آخر الزمان عند خروج المهديّ حينما يملأ الأرضَ قِسطًا وعدلا كما مُلئت ظلمًا وجَورًا، فتحصلُ البركات وتكثر الخيرات، حتى إنَّ قشرةَ الرمانَةِ يستظلّ بها الجماعة من الناس.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفّارا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهارًا.
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، لا إله إلا الله يفعل ما يريد.
اللهمَّ أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا طبقًا غدقًا مجلِّلاً، عاجلاً غير رائث، اللهمّ أسق عبادك وبهائمَك، وانشُر رحمتك، وأحي بلدك الميت.
اللهمّ إنا خرجنا إليك من بين البيوت والأستار والأكنان بعد عجيج البهائم والوديان، راغبين في رحمتك، وراجين فضلَ نعمتك، وخائفين من عذابك ونقمتك، اللهمّ فأسقنا غيثَك، اللهم فأسقِنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا يا أرحم الراحمين.
اللهمّ إنا خرجنا نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضايق الوعرَة، وأجاءتنا المقاحِط المجدِبة، وأعيتنا المطالبُ المتعسِّرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعَبة.
اللهمّ انشر علينا غيثك، اللهم انشر علينا غيثَك وبركتك ورزقَك ورحمتك، وأسقنا سُقيًا نافعة مُرويةً مُعْشِبةً، تنبتُ بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافِعةَ الحيا، كثيرةَ المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البُطنان، وتستورق الأشجار، وترخِص الأسعار، إنّك على كلّ شيء قدير.
اللهمّ إنّك تشاهدنا في سرّائنا، وتطّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلغَ بصائرنا، أسرارُنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، إن أوحشَتنا الغربةُ آنسَنا ذكرُك، وإن صُبَّت علينا المصائب لجأنا إلى الاستجارة بك، إنّنا عبيدُك، بنوعبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمُك، عدلٌ فينا قضاؤنا، نسألك اللهمّ أن تنزّل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، واجعل ما أنزلتَ لنا قوّةً وبلاغًا إلى حين.
اللهمّ صلِّ على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربِّك ربّ العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. اللهمّ إنا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموالٍ وبنين، واجعل لنا جنّاتٍ، واجعل لنا أنهارًا.
|