أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة، وتوكّلوا عليه وأنيبوا إليه، وأحسِنوا الظنَّ به، وادعُوه خوفًا وطمَعًا، واذكروا وقوفَكم بين يدَيه، في يومٍ يجعل الولدانَ فيه شيبًا، يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلّ ٱمْرِئٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
أيّها المسلِمون، عندَما ينزِل البلاء وتحُلّ المِحن وتدلهمّ الخطوب وتعمّ الرزايا تضطرِب أفهامُ فريقٍ من الناس، وتلتاثُ عقولُهم، وتطيش أحلامُهم، فإذا بِهم يذهَلون عن كثيرٍ من الحقّ الذي يعلمون، وينسَون من الصّواب ما لا يجهلون، هنالك تقَع الحيرة ويثور الشكّ وتروج سوقُ الأقاويل وتهجَر الحقائق والأصول وتُتَّبع الظّنون وما تهوى الأنفس ويُحكَم على الأمور بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير، وفي معامِع الغفلةِ ينسى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاء ماضيةٌ في خلقه، وأنَّ قضاءه بها نافذ فيهم، وكيفَ ينسى ذلك وهو يَتلو كتاب ربِّه بالغداة والعشيّ، وفيه بيانُ هذه الحقيقة بجلاءٍ لا خفاءَ فيه، ووضوحٍ لا مزيد عليه، حيث قال سبحانه: الـم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وقال عزّ وجلّ: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأمُورِ [آل عمران:186]، وقال تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ٱلأمَوَالِ وَٱلأنفُسِ وَٱلثَّمَرٰتِ وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وقال تقدّست أسماؤه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ [محمد:31].
إنّها ـ يا عبادَ الله ـ سنّة ربانيّةٌ عامّة لم يستثنِ الله منها أنبياءَه ورسلَه مع علوِّ مقامهم وشرفِ منزلتهم وكرمِهم على ربّهم، بل جعَلهم أشدَّ الناس بلاءً كما جاءَ في الحديث الذي أخرجَه الترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه في سننهم وأحمد في مسنده وابن حبانَ في صحيحه بإسنادٍ صحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أشدّ بلاء؟ فقال: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسَب دينه، فإن كان في دينِه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البلاءُ بالعبدِ حتّى يتركَه يمشِي على الأرض وما عليه خَطيئة)).
وقد نَزَل برسول الله مِن هذا البَلاء ما هو معلومٌ لكلِّ من وقَف على طرفٍ من سيرتِه وتأمَّل أخبارَها، وحسبُكم ما ناله مِن أذى قومِه، وتكذيبِهم له، واستهزائِهم به، وصدِّهم الناسَ عن سبيلِه، وحملِهم له على مفارقةِ وطَنه ومبارحةِ أرضه، وإعلانِ الحرب عليه، وتأليبِ النّاس حتى يُناصبوه العداءَ ويرموه عن قوسٍ واحدة، وغزوِهم دارَ هجرتِه ومقرَّ دولتِه ومأمنَ أهلِه وصحابتِه للقضاء عليه ووأدِ دينه واستئصالِ شأفته، وممالأةِ أعدائه من اليهود والمنافقين في المدينة عليه، وكيدِ هؤلاء له، ومكرِهم به، ونقضِهم ميثاقَهم الذي واثقهم به، والتحالفِ [مع] المشركين على حربه، وسعيِهم إلى قتله غيلة وغدرًا، بعدَما استَيأسوا من بلوغِ ما يريدون من ذلك في ساحاتِ الوغى وميادين النّزال، فكان مثلُه صلوات الله وسلامه عليه كمثلِ من سبقه على دربِ الابتلاء من إخوانِه النبيّين ثابتًا للمحن، صابرًا على البلاء، مجاهدًا في الله حقَّ جهاده حتّى أتاه نصرُ الله وفتحُه، ودخل النّاس في دِين الله أفواجًا، وغمرت أنوارُ الهداية أقطارَ النّفوس، وخالطت بَشاشة الإيمان القلوب، فلحِق بربّه ومضى إلى خالقِه راضيًا مرضيًّا، طيِّبَ النّفس قريرَ العين، تاركًا في أمّته مِن بعده شيئين ما إن تمسَّكوا بهما لن يضلّوا بعده أبدًا: كتابَ اللهِ وسنّته عليه الصلاة والسلام كما صحّ بذلك الحديث.
عبادَ الله، إنّه لم يكن عجبًا أن ينهَج رسول الله هذا النهجَ بالصّبر على البلاءِ هو والنبيّون من قبله وأتباعهم من بعدهم، فإنّهم يستيقِنون أنَّ الله تعالى لم يكتُب هذه السّنّةَ على العبد ليهلكَه أو يقتلَه أو يوردَه الموارد، حتّى تضيق عليه نفسُه، وتضيق عليه الأرضُ بما رحُبت، وحتّى تورِثه فسادَ الحال في العاجلة وسوءَ المآل في الآجلة، وإنّما كتبها لحِكمٍ عظيمة وفوائدَ جليلة ومقاصدَ جميلة تكاد تربو على الحصرِ وتجلّ عن العدِّ، فمِن ذلك أنَّ هذه البلايا إنّما جاءت ليمتحِن الله بها صبرَ عبدِه وليبتليَه فيتبيَّن حينئذ صلاحُه لأن يكونَ مِن أوليائه وحزبِه المفلحين، فإن ثبتَ للخطوبِ وصَبر على البَلاء اصطفَاه واجتباه، وخَلعَ عليه خِلَع الإكرام، وألبسَه ألبسةَ الفضل، وكساه حُللَ الأجر، وغشَّاه أغشيةَ القبول، وختم له بخاتمةِ الرّضوان، وجعل أولياءه وحزبَه خدمًا له وعونًا. وإنِ انقلبَ على وجهه ونَكَص على عقِبيه طُرد وأقصِي وحجِب عنه الرّضا، وكُتب عليه السّخط، وتضاعفت عليه أثقال البلاء وهزمَته جيوشُ الشقاء، وهو لا يشعرُ في الحال بتضاعُفٍ ولا بهزيمة، لكنه يَعلم بعد ذلك أنَّ المصيبةَ صارَت في حقِّه مصائب، وما بين هاتَين المنزلتين منزلةِ الصّبر ومنزلة السّخط كما قال العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله: "ما بينهما صبرُ ساعة، وتشجيعُ القلبِ في تِلك السّاعة، والمصيبَة لا بدَّ أن تقلِع عن هذا وهذا، ولكن تقلِعُ عن هذا بأنواعِ الكراماتِ والخيرات، وعن الآخرِ بالحِرمان والخِذلان؛ لأنَّ ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم" انتهى كلامه يرحمه الله.
فعطاءُ الصبر إذًا هو خيرُ ما يُعطى العبد من عطاء كما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((ما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصّبر)).
ومِن حِكم الابتلاء ـ أيها الإخوة ـ تحقيقُ العبوديّة لله، فإنَّ الله تعالى يُربِّي عبدَه على السّرّاء والضّرّاء والنّعمة والبلاء، حتّى يستخرجَ منه العبوديّة في جميع الأحوال، إذِ العبد على الحقيقة هو القائمُ بعبوديّة الله على اختلافِ أحوالِه، أمّا عبدُ النّعمة والسّرّاء وهو الذي يعبُد اللهَ على حرف، هو الشكّ والقلقُ والتّزلزل في الدين، أو على حالٍ واحدة، فإِن أصابَه خير اطمأنّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلبَ على وجهه، فهذا ليسَ من عبيده الذين اختارَهم سبحانه لعبوديّته وشرّفهم بها ووعدَهم بحسنِ العاقبةِ عليها.
فالابتلاء ـ يا عباد الله ـ كيرُ القلوب ومحكُّ الإيمان وآيةُ الإخلاص ودليل التسليم وشاهدُ الإِذعان للهِ ربِّ العالمين، وهُو كالدّواء النافع يسوقه إلى المريضِ طبيبٌ رحيمٌ به ناصحٌ له عليمٌ بمصلحتِه، فحقُّ المريض العاقِل الصبرُ على تجرّع صابِه وعلقمِه، ولا يتقيَّؤُه بالسّخَط والشّكوى لئلاّ يتحوّل نفعُه ضررًا، فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
فعلى المسلمِ عندَ نزولِ البلاءِ ووقوعِ المحن ونُجومِ الخطوب أن يثبُت لها ثباتًا لا يتزلزَل مهما اشتدَّت ريحها واضطرمَت نيرانُها، وإنَّ لهذا الثّبات ـ أيّها الإخوة ـ أسبابًا تعين عليه وتذلِّل السبيلَ إليه، منها صدقُ اللجوء إلى الله تعالى، وكمالُ التوكّل عليه، وشدّة الضراعة وتمامُ الإنابة إليه، وصِدق التوبَة بهجرِ الخطايا والتّجافي عن الذنوب، فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفِع إلا بتوبة).
وكذا تحسينُ الظنِّ بالإخوَة في الدين عامّة، وبولاة الأمرِ وأهلِ العلم والفضلِ خاصّة، وذلك بحملِ أقوالِهم وأعمالِهم على أحسنِ المحامل وأجملِها، وكذا الرّجوع إلى الراسخين في العلم باستيضاحِ ما يُشكل والسؤالِ عما يُجهَل.
وعليه أيضًا الحذر من الإعجاب بالرأي، والبعدُ عن التعجّل في إطلاقِ الأحكام، وعن التسرّع في تفسير المواقف بمجرّد الرّأي أو بالوقوع تحت تأثير ما يسمَّى بالتّحليلات على اختلافِ موضوعاتِها وتعدُّد مصادرِها، لا سيّما حين تصدُر عمّن لا يُعلَم كمالُ عقلِه ولا صحّة معتقَده ولا سلامَة مقصده ولا صِدق نصيحتِه ولا صفاءُ طويّته، ثم هي ـ أي: هذه التحليلات ـ مبنيّة في الأعمّ الأغلَب على المصالِح والمطامِح والأهوَاء، ولذا يشيعُ فيها الكذِب والخطأ والظلم. ويجبُ أيضًا تركُ القيل والقال الذي كرِهه الله لعبادِه كما أخبر بذلك رسول الله بقوله في الحديث الصحيح المتّفق عليه بين الشّيخين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إنَّ الله تعالى حرَّم عليكم عقوقَ الأمّهات ووأدَ البنات ومنعًا وهات، وكرِه لكم قيل وقال وكثرةَ السؤال وإضاعةَ المال))، ويدخل فيه التحديثُ بكلِّ ما يسمعُه المرء، فقد زجرَ النبي عن ذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع))، وفي لفظٍ لأبي داودَ في سننِه بإسنادٍ صحيح: ((كفى بالمرء إِثمًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع)).
وإنَّه إذا كان حَريًّا بالمسلم اتِّباعُ هذا النّهج الراشدِ السديد كلَّ حين فإنَّ اتباعَه له في أوقاتِ الشّدائدِ وأزمِنة المِحن أشدُّ تأكّدًا وأقوى وجوبًا، وصدق سبحانه وتعالى إذ يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|