أما بعد: لقد أجمع المسلمون على أنّ الصحابة رأسُ الأولياء وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين وأسوة المسلمين، وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين؛ جمَعوا بين العلم بما جاء به رسول الله وبين الجهادِ بين يديه، شرّفهم الله بمشاهدة خاتَم أنبيائه وصُحبته في السّراء والضّرّاء وبذلِهم أنفسَهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله، حتّى صاروا خيرةَ الخِيَرة وأفضلَ القرون بشهادة المعصوم . هم خيرُ الأمَم سابقِهم ولاحقهم، أولِّهم وآخرهم. هم الذين أقاموا أعمدَة الإسلام وشادوا قصورَ الدّين، قطعوا حبائلَ الشّرك، أوصلوا دينَ الإسلام إلى أطرافِ المعمورة، فاتّسعت رقعة الإسلام، وطبقت الأرض شرائع الإيمان، فهم أدقّ النّاس فهمًا وأغزرُهم علمًا وأصدقهم إيمانًا وأحسنهم عملاً، كيف لا وقد تربّوا على يدَي النبي ونهلوا من ماء معينه الصّافي وشاهدوا التنزيل؟! روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: (إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلبَ محمّد خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد بعدَ قلب محمّد فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نبيّه يقاتلون على دينه).
إنهم جيله عليه الصلاة والسلام، هو القرن الذي عاش فيه، هم الملأ الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، يُعلّم ويُوجّه، يسقي ويروي ما شاء لهذه الأنفس.
ولنقترب في خشوع وغبطة من أولئك الرجال الأبرار لنستقبل فيهم أروع نماذج البشرية الفاضلة وأبهاها، ولنرى تحت الأسماء المتواضعة أسمى ما عرفت الدنيا من عظمة ورُشد ورجوع إلى الله، في نماذج يعجز اللسان عن وصفها والقلم في التعبير عنها، ولنسرح بخيالنا مع بعض تلكم النماذج السامقة.
أشرقت شمس الرسالة على مدينة الرسول قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، ويجلس الرسول في المسجد وأصحابه حوله، يجلس كالقمر وسط النجوم في ظلام الليل، يُعلّمهم ويُؤدبهم ويزكيهم وإن كانوا من قبل ذلك لفي ضلال مبين، واكتمل المجلس بكبار الصحابة وسادات الأنصار وبالأولياء والعلماء، وإذا بامرأة متحجبة تدخل باب المسجد، فسكت عليه الصلاة والسلام وسكت أصحابه، وأقبلت تمشي رُويدًا حتى وصلت إليه عليه الصلاة والسلام، ثم وقفت أمامه وأخبرته أنها زنت وأنها تريد أن يُطهرها. فماذا فعل الرسول ؟ هل استشهد عليها الصحابة؟! هل قال لهم: اشهدوا عليها؟! هل فرح بذلك لأنها سلّمت نفسها؟! لا، احمرّ وجهه حتى كاد يقطر دمًا، ثم حوّل وجهه إلى الميمنة، وسكت كأنه لم يسمع شيئًا. إنها امرأة رسخ الإيمان في قلبها وفي جسمها، حتى جرى في كل ذرة من ذرات هذا الجسد. هل كانت تظن أن التطهير عنده كلام يُعزّرها به أو سياط وينتهي الأمر؟! كلا، إنها تعلم أن التطهير حجارة تتقاذف عليها، تُقطّع جسدها فتلحقها بالآخرة، ما أعظم هذه المرأة!
لقد ارتفع الإيمان عند ذلك الجيل إلى درجة لا يصل إليها أبرارُنا وأخيارنا هذا اليوم، إن عُصاة ذلك المجتمع المثالي والجيل الراشد أعظم إيمانًا من طائعينا وعُبّادنا وزُهادنا.
فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟! حاول أن ترجع المرأة عن كلامها، لم يُرِد أن يأخذها بكلمة صدرت عنها، قد تكون غاضبة حينما قالتها، وقد تكون هناك شبهة، وهو الذي يُروى عنه قوله: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)). إنه يمنع التجسس والتصنت والاطلاع على عورات المؤمنين، فهو الذي يقول منذرًا ومحذرًا طوائف معلومة: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)).
أخبرته المرأة أنها حُبلى من الزنا فقال: ((اذهبي حتى تضعي طفلك ثم ارجعي))، فذهبتْ حتى وضعت طفلها ثم عادت إليه.
وفي هذا الموقف بدائع وفوائد، منها عصمة هذا الجنين، فلا يُقتل معها بغير ذنب، ومنها صبرُها، فإنها لم تتغير عن موقفها أبدًا، ذهبت وبقيت صابرة محتسبة، أكل الأسى قلبها، وسال الدمع الحار على وجنتيها، وتحرّق فؤادها تريد أن تتطهّر، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
حملت طفلها تسعة أشهر ثم وضعته، وفي أول يوم أتت به وقد لفَّته في خرقة وذهبت به إلى النبي ولم تتأخر خطوة واحدة عن إقرارها الأول، ثم هو لم يَسْتَدعِها عليه الصلاة والسلام، ولم يُرسل إليها عسكرًا ولا شرطةً، ولكن تَرَكَها فأتت بنفسها، تحمل طفلها بين يديها، وقالت: يا رسول الله، طهرني من الزنا، فنظر إلى طفلها وقلبه يتفطر عليه ألمًا وحزنًا؛ لأنه كان يعيش الرحمة للعصاة، فقال لها: ((ارجعي وأرضعيه، فإذا فَطَمْتيه فعودي إليّ)). فذهبت إلى بيت أهلها، فأرضعت طفلها، وما يزداد الإيمان في قلبها إلا رسوًّا كرسوِّ الجبال، كل يوم كانت تقترب من الله، ومن جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين وفُتحت للتائبين والعائدين. ثم أتت بالطفل بعد أن فطمته وفي يده كسرة خبز، وذهبت إلى الرسول وقالت: طهرني يا رسول الله، فأخذ طفلها وكأنه سلَّ قلبها من بين جنبيها، لكنه أمْر الله تعالى الذي يجعل الناس سواسية حتى في باب العقوبة والسيف والحبس، قال عليه الصلاة والسلام: ((من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة كهاتين))، فقام أنصاريٌّ فأخذ الطفل. إنه مشهد مؤثّر، مشهد الإمام وهو لا يتنازل عن حق الله، ولكنه لا يتجسس ولا يُرهب ولا يُرعب، وإنما يُربي الأنفس حتى يأتي الإنسان طائعًا، يُسلّم نفسه بنفسه إلى العدالة، إنها تربية: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]. إن القوى العالمية والكيانات الأرضية والحكومات لا تستطيع أن تقول لرعاياها: وَبَاطِنَهُ؛ لأن الباطن عند الله، لكن محمدًا عليه الصلاة والسلام ربى هذا الباطن، حتى يأتي الإنسان وقد فعل فاحشة، لا يعلم به إلا الله، فيُسلِّم رقبته لتُقطع.
ذهبوا بالمرأة فحجّبوها، وجاء بعض الصحابة يشهد إقامة الحدّ، وأتت الحجارة عليها من كلّ جانب، ثم أقبل خالد بن الوليد فرمى رأسها بحجر فتنضّح الدم على وجهِ خالدٍ فسبَّها، فسمع النبي سبّه إياها، فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له))، وفي رواية أن النبي أمر بها فَرُجمت ثم صلّى عليها، فقال له عمر : تُصلي عليها ـ يا نبي الله ـ وقد زنت؟! فقال النبي : ((لقد تابت توبة لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسِعَتْهُم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)).
هذا هو الإسلام، قوةٌ في تنفيذ حدود الله تعالى، ورحمةٌ إذا نفّذ هذا الحدُّ كما أراد الله، وقبولٌ لتوبة المذنب، وشفاعةٌ عند الله تعالى يوم القيامة.
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الدين يقوم بتربية ضمائر الناس وتزكية نفوسهم وتعميق الإيمان في قلوبهم بأن العدالة لا بد أن تسود، وأن المساواة أمام الشرع هي من أكبر أسباب بقاء هذه الأمة وقوتها.
موقف آخر: عندما أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحَده، أي: أنها كانت تستعير أمتعة الناس وأموالهم، فاهتمت قريش بشأن هذه المرأة؛ لأنها كانت من قبيلة ذات نسب وشرف، فقالوا: من يُكلّم فيها رسول الله ، قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله ؟! فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوّن وجه النبي فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!)) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العَشِيُّ قام رسول الله فخطب الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وإني ـ والذي نفسي بيده ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). ثم أمَر بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها. قالت عائشة رضي الله عنها: فَحَسُنت توبتها بعد، وتزوّجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله .
أيها المسلمون، ليس هناك حصانة لأحد في دين الله تبارك وتعالى تمنعه من أن يُعاقب إذا ارتكب ما يستحق عليه العقاب. إن دين الله تبارك وتعالى ليس مُفصّلاً على حسب الأمزجة والأهواء، ولا تدخله الشفاعات ولا الوساطات؛ لأنه إذا لم يُطبق الإسلام على الناس جميعًا فما فائدته إذًا؟! وما الجديد الذي أتى به إذا لم يكن الناس كلهم سواسية أمام الشريعة الإلهية؟!
وهذا رجلٌ آخر كان يشرب الخمر في عهده عليه الصلاة والسلام، وكان النبي قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا، فأمر به فَجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي : ((لا تلعنوه، فوالله إنه يحبُّ الله ورسوله)).
إنه مجتمع قد امتلأ بالحب لله ورسوله، شارِبُهم يحمل الحب لله ورسوله، ولا تمنعه معصيته من أن يُقدّم روحه رخيصة للواحد الأحد.
إن العصاة في مجتمعنا ليسوا كما يتصوّرهم البعض أنهم انسلخوا من الدين، أو أنهم خَلَعوا "لا إله إلا الله"، أو أنهم لا يؤمّل فيهم صلاح، هذا ليس بصحيح، فعندهم خيرٌ كثير، والمطلوب من الدعاة والمربين استثارة هذا الأصل في نفوس الناس، وأن نُنمّي هذه الفطرة في قلوبهم حتى يزدادوا من الخير ويتركوا ما هم عليه من المعصية.
أيها المسلمون، ولننتقل بعد ذلك إلى العهد العمري، أتى شابّان إلى عمر وكان في المجلس، وهما يقودان رجلاً من البادية، فأوقفوه أمام عمر بن الخطاب ، قال عمر: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال دخل بجمله في أرضي فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه حجرًا وقع على رأسه فمات، قال عمر: القصاص، ولم يسأل عمر عن أسرة هذا الرجل: هل هو من قبيلة شريفة؟ هل هو من أسرة قوية؟ ما مركزه في المجتمع؟ كل هذا لا يهم عمر لأنه لا يحابي أحدًا في دين الله، ولا يجامل أحدًا على حساب شرع الله، ولو كان ابنه القاتل لاقتص منه. قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض أن تتركني ليلة لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم بأنك سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا، قال عمر: من يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعًا، إنهم لا يعرفون اسمه ولا خيمته ولا داره ولا قبيلته ولا منزله، فكيف يكفلونه؟! وهي كفالة ليست على عشرة دنانير ولا على أرض ولا على ناقة، إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف، ومن يعترض على عمر في تطبيق شرع الله؟! ومن يشفع عنده؟! ومن يمكن أن يُفكر في وساطة لديه؟! فسكت الصحابة وعمر مُتأثر؛ لأنه وقع في حيرة، هل يُقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعًا هناك، أو يتركه فيذهب بلا كفالة، فيضيع دم المقتول، وسكت الناس، ونكّس عمر رأسه والتفت إلى الشابين: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: من يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده وصدقه، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قتلاً، قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟! قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لم يكذب، وسيأتي إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذرّ، أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك؟! قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل، وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ، يُهيئ فيها نفسه ويُودّع أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده، ثم يأتي ليقتص منه لأنه قتل. وبعد ثلاث ليالٍ لم ينس عمر الموعد يَعُدّ الأيام عدًا، وفي العصر نادى في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابان، واجتمع الناس، وأتى أبو ذر، وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين، وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرّ سريعة على غير عادتها، وسكت الصحابة واجمين، عليهم من التأثر ما لا يعلمه إلا الله. صحيح أن أبا ذرّ يسكن في قلب عمر، وأنه يقطع له من جسمه إذا أراد، لكن هذه شريعة الله، لا يلعب بها اللاعبون، ولا تدخل في الأدراج لتُناقش صلاحيتها، ولا تنفذ في ظروف دون ظروف، وعلى أناس دون أناس، وفي مكان دون مكان. وقبل الغروب بلحظات وإذا بالرجل يأتي، فكبّر عمر، وكبّر المسلمون معه، فقال عمر: أيها الرجل، أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك وما عرفنا مكانك، قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ الطير، لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، فوقف عمر وقال للشابين: ماذا تريان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته، جزاكما الله خيرًا ـ أيها الشابان ـ على عفوكما، وجزاك الله خيرًا ـ يا أبا ذرّ ـ يوم فرّجت عن هذا الرجل كربته، وجزاك الله خيرًا ـ أيها الرجل ـ لصدقك ووفائك. وجزاك الله خيرًا ـ يا أمير المؤمنين ـ لعدلك ورحمتك.
أيها المسلمون، لقد ربى النبي جيلا من الناس ليسوا كسائر الناس، إنهم جيل الصحابة رضوان الله عليهم، جيل مميز في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية كلها.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
|