أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا العمل، وقصّروا الأمل، واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيون، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
معاشر المسلمين، إنه الشعار الذي كثُر الحديث عنه في الشرق والغرب، إنه الغِطاء الذي طالما دندن حوله دعاة التغريب على أنه مطلب حضاريّ يجب الإيمان به، إنها الشمّاعة التي اتخذها الغرب عذرًا في الدفاع عن سفهائِه حينما تطاولوا على عرض محمد ؛ حتى أضحى هذا المصطلح مبدأ يفاخر به عند أولئك القوم، إنه مصطلح "حرية الرأي".
أيها المؤمنون، حرية الرأي لفظ جذّاب ومصطلح أخّاذ، يلامس المشاعر، ويحرك العواطف. حرية الرأي كلمة جميل نطقها، تهفو إليها النفوس الأبية، وترنو نحوها الهمم العالية، بَيدَ أن هذا لا يعني القبول به كلّه بحلوه ومره، بل لا بد من عرضِ هذا المصطلح بكل دقّة ووضوح؛ حتى لا يكون سلّمًا لتمرير الأفكار الهدّامة والنظريات المستورَدَة تحت شعار "حرية الرأي".
عباد الله، حرية الرأي من المصطلحات العائمة العامة التي تحمل حقّا وباطلا، ولو رجعنا إلى قرآن ربّنا وسنة نبينا لا نجد مثل هذه التعبيرات، فهي مصطلح حادث لم تعرفه قواميس أهل الإسلام، ولم يستخدمه أئمة الإسلام في العصور الفاضلة، ومع ذا كلّه فلا يمنع من الوقوف مع دلالات هذا المصطلح، فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
إخوة الإيمان، إن من المقرر لدَينا أن دين الإسلام هو دين العدل والحرية والرحمة والهداية، وما أصدق ما قاله ربعي بن عامر مخاطبا ملك الفرس: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق لدنيا إلى سعة الآخرة). فديننا الإسلامي دين الرحمة، دين الحرية، دين الرحمة بالخلق والدّعوة إلى الخير، دين الكلمة الطيبة التي تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها.
فمن شواهد ذلك قوله للأعرابي الذي جاء يناشد حقّا من حقوقه: ((دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا)). وما ترسيخ الإسلام لمبدأ الشورى والحثّ على النصيحة والحضّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ لونا من ألوان حرية الرأي. بيد أن هذه الحريّة ليست مساحة مفتوحة ليقول فيها من شاء ما شاء، إنما جُعِل لهذه الحرية ضوابط وحدود لا تتعداها حتى لا تُفسِد على الناس دينهم ودنياهم.
عباد الله، إن المتأمل لموقف الإسلام من حرية الرأي يمكن أن يستلهم قواعد عامة تجلي الموقف من حرية الرأي ومساحتها المسموح بها والممنوع، منها:
أولا: أن الإسلام عظّم من مكانة الرأي وأعلى من شأنه، سواء أكان هذا الرأي كلمة منطوقة أم مكتوبة، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24]، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26]، وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة)) رواه أحمد في مسنده.
ثانيا: أن هذا الرأي ليس بضع كلمات يلقيها الإنسان ثم يتفلّت من تبعاتها، كلا، بل هي حرية تصاحبها مسؤولية ومحاسبة، يقول الله عز وجل: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويقول النبي لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ((وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)).
ثالثا: أن الإسلام أمر بالرأي الحسن والقول المؤدّب: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت)).
وفي المقابل نهى الإسلام عن إبداء الرأي السيّئ: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، ويدخل في هذا أيضا الأفعال السيّئة والأفكار المنابذة للشرع.
رابعا: أن الإسلام جاء بحفظ ضرورات خمس، منها حفظ الأعراض، ومن هذا الباب حرّمت الشريعة جملة من الآفات التي فيها ضرر بالآخرين، كالقذف والغيبة والبهتان والتنابز بالألقاب وغيرها، فلا يجوز الولوغ في أعراض المسلمين أو التهكّم بهيئاتهم تحت شعار حريّة الرأي.
خامسا: أن الإسلام نهى عن إبداء الرأي بلا علم: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]. فليتكلم كل إنسان بما يحسن، وليترك ما لا يحسن، وليحترم كلّ امرئ تخصّصه، ولا يتطفّل على تخصّصات الآخرين فيأتي بالعجائب.
سادسا: أن القضايا العامة والنوازل المتعلّقة بقضايا الناس ومصالحهم لا بد من ردّها إلى الكتاب والسنة لمعرفة حكم الشرع فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم: (لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة).
وأعلمُ الناس بمراد الله تعالى وفهم الشرع هم أهل العلم الراسخون، فلا بد من أخذ رَأيهم في كلّ معضلة أو نازلة كما قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
وإن تعجب فعجب من أقزام يتحدثون في نوازل عامة وخطوب مدلهمة، لو رفعت للفاروق لجمع لها أهل بدر وشيوخ الإسلام للنظر فيها، فيتقدم هؤلاء بين يدي علماء الأمة ليدلوا بجهالاتهم تحت شعار حرية الرأي.
سابعا: أن حرية الرأي يجب أن لا تطال المقدّسات الدينية والثوابت الشرعية كأصول الاعتقاد والنصوص القطعية، فلا حرية ولا تسامح مع الآراء المعاكسة للشريعة تحت أي شعار كانت، وإلا لتهدم بنيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي السفهاء.
فها هو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤتى برجل يسمَّى صبيح جعل يثير الشبهات بين الناس ويضرب النصوص بعضها ببعض، فأمر بجلده وجَلَده حتى تأدّب وتاب.
ويبقى باب حرية الرأي مفتوحا في الأمور المباحة والمسكوت عنها وما يتعلّق بمعاش الناس الدنيويّ، وهي أبواب واسعة وكثيرة يصعب عدّها وحصرها.
وحقّ لنا أن نقول بكل فخرٍ وثقة: إنه لا يوجد نظام في الأرض يوفّر للإنسان حريته ويضبط هذه الحرية بقواعد تحميه وتوفّر له الخير والسعادة إلا في الإسلام، وصدق الله عز وجل: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
عباد الله، لقد قامت دعوات حرية الرأي عند الغرب للتخلّص من ديكتاتورية البابوات وسياط الكنيسة التي كانت تستعبِد الناس وتخنق حرياتهم وتعاقبهم على أفكارهم، عند ذلك عظم الغرب هذه الحرية وعمّموها وقدسوها وحموها حتى أضرّت بدينهم ودنياهم، فإعلان الفاحشة والتباهي بها ودعوة الآخرين إليها في ميزان الغرب حرية مقدّسة تسنّ القوانين لحمايتها والدفاع عن أصحابها، وفي ميزان الإسلام جرائم وكبائر يؤدَّب أصحابها والدّاعون إليها.
أيها المؤمنون، أحبابَ المصطفى ، كم آلمنا وأحزَننا هذا التواقح السافر من سفهاء الغرب على مقام النبي ، وزادنا إيلاما موقف حكوماتهم بأن هذا يندرج تحت شعار حرية الرأي التي يتمتّع بها المجتمع الغربي المتحضر. وكلنا يعلم أن هذا التبرير البارد إنما هو لذرّ الرماد في العيون، وأن هؤلاء الذين يتغنّون بالحرية هم أوّل من يطأ تلك الحريات تحت قدمه إذا صادَمت مصالحهم، وإلا فأين حرية الرأي في بلاد تمثال الحرية التي لم ولن تسمع للشيوعيين في عرض مبادئهم؟! فأين حرية الرأي عن مناقشة قضية المحرَقة اليهودية وحقيقة وقوعها؟! فها هي ألمانيا تصدر قانونا بالسجن خمس سنوات لكل من يزعم أن تلك المحرقة كانت فِرية. هل يستطيع الغَرب المتحضّر أن يعبّر في صحفه عن قضية صلب المسيح التي ورَدت في أناجيلهم؟! هل يستطيع الغرب المتحضّر أن يفصح للعالم أن بولس اليهوديّ هو المؤسّس الحقيقيّ للدّين المسيحي الذي تدين به أوروبا والغرب النصراني؟!
إن كان في سبّ الرسول تحضّر فلتفتخر بقريشِها الكفّـار
حرّيـة التعبير ليست دميـة يلهو بِها الأوغاد والأشرار
فليشتموا شمطاءهم ويهودهم علنا لنعلم أنهـم أحـرار
يا دولة الأبقار إن مصيركم شؤم يَحل بداركم وشنار
أيها المسلمون، إنّ هذا العداء الحاقد لنبيّ الإسلام الذي صعّدته الدنمارك ووقفت معهم بعض الدّول النصرانية إنما هو في الحقيقة مؤامَرة مرسومة للطعن في الإسلام وتشويهه، وإن الصحيفة التي نشرت تلك الرسومات الآثمة ليست صحيفة من الدرجة الثانية أو الثالثة، كلا، بل هي من الصحف الناطقة باسم الحاكم اليميني المتطرف المعلن عداوته للإسلام، والذي قال ساساته قبل نشر تلك الرسومات بوقت قصير: "إن من الضروري أخذ التحدّي الذي يشكّله الإسلام محمل الجد". ثم سرعان ما تفاعلت أقلام ورسومات مع هذه الدعوة الملكية.
وقد علّمنا التاريخ أن ملوكَ النصارى هم أشد الناس عداوة للمسلمين، وأن حملاتهم الصليبية التي كانوا يتزعمونها لهي أكبر شاهد على حقدهم الغائر على الإسلام وأهله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|