أما بعد: أيها المسلمون، إن الإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود وعنصر المرونة، وهذا من واقع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان. لكن هناك ثوابت لا تقبل التطوير ولا الاجتهاد ولا الإضافة ولا التغيير، ولا يمكن أن يقول بتغيير هذه الثوابت عالم معتبر.
فمن ذلك على سبيل المثال مسائل الإيمان والعقائد، فصفات الله سبحانه وتعالى والملائكة والجنة والنار واليوم الآخر وعذاب القبر وغير ذلك من مسائل الغيب لا تقبل الإضافة مطلقًا، وكذلك الصلوات من فرائض ونوافل لا تجوز الزيادة فيها على المشروع، فلا جديد على الصلاة والصوم والزكاة والحج.
ومن الثوابت أن الإسلام هو خاتم الأديان والرسالات، ولا يقبل الله من الناس غيره، فمن مات على غير الإسلام فهو من أهل النار، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
ومن الثوابت إقامة العدل ومنع الظلم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
ومن الثوابت شمولية الإسلام، فهو نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا لقوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]. فلا فصل بين الدين والعلم، ولا فصل بين الدين والسياسة، كما أنه لا فصل بين الدين والاقتصاد.
ومن الثوابت في حياة الأمة المحرمات اليقينية من السحر وقتل النفس والزنا وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات والسرقة والغيبة والنميمة والكذب وغيرها.
ومن الثوابت أمهات الفضائل من الصدق والأمانة والعفة والصبر والوفاء بالعهد والحياء والكرم والمروءة.
ومن الثواب أن الإسلام قد حرص على إقامة مجتمع العفاف والطهر، وقضى على انحرافات الجاهلية، فمنع الاختلاط ودواعيه، وحرّم الخلوة بالمرأة الأجنبيّة ومصافحتها، وحثّ على غض البصر، وأمر بلباس شرعي ساتر للمسلمة.
ومن الثوابت الأحكام القطعية في شؤون الأسرة والمجتمع التي ثبتت بالنصوص المحكمة، مثل إباحة الطلاق وتعدّد الزوجات وإيجاب النفقة على الزوج وإعطائه درجة القوامة على الأسرة، فلا يسوغ لأحد تقييد الطلاق وتقييد تعدّد الزوجات والدعوة إلى الاختلاط وترك الحجاب بحجة تحرير المرأة والتمدّن والتحضّر والاستنارة. فهذه ثوابت في ديننا لا تقبل المناقشة.
ومن الثوابت أن الرجل والمرأة في ميزان الإسلام جناحان لا تقوم الحياة ولا ترقى إلا في ظل عملية مواءَمة بينهما، فالله خلق المرأة للمهمة ذاتها التي خلق من أجلها الرجل، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. المرأة في ميزان الإسلام كالرجل، فرض الله عليها القيام بالتكاليف الشرعية، فلها أن تتعلم ما ينفعها من علوم الدنيا والآخرة.
ومن الثوابت أن الخالق جل وعلا زوّد كلاً من الرجل والمرأة بخصائص تتوافق والمهمة التي يقومان بها، وجعل فروقًا بينهما، فالمرأة تختلف عن تكوين الرجل في بنائها الجسمي وتكوينها الجسدي، ومما تتميز به خصائص الأنوثة، سرعة الاستجابة، رقة العاطفة، غلبة الحياء، كثرة الخجل، قلة التحمل، والظروف الطارئة الطبيعية، اقتضت حكمة العليم الخبير ذلك، لتؤدّي دورها المرسوم في الحياة بما يتلاءم مع فطرتها، والزجّ بها في الميادين الخاصة بالرجل انتكاسة للفطرة ومصادَمة للواقع خِلقةً وحكمًا وشرعًا.
عنصر الثبات يتجلّى في رفض المجتمع المسلم للعقائد والمبادئ والأفكار والقيم والشعارات التي تقوم عليها المجتمعات الأخرى غير المسلمة؛ لأن مصدرها غير مصدره، ووجهتها غير وجهته، وسبيلها غير صراطه، ولذلك حرص رسول الله على تميّز المسلمين في كل شؤونهم عن مخالفيهم، فتميّز المجتمع المسلم أمر مقصود للشارع.
ومن الثوابت أن الإسلام لا يمكن تجزئته، فلا بد أن يؤخذ كله كما أمر الله، عقيدةً وعبادة، أخلاقًا ومعاملةً، تشريعًا وتوجيهًا. الإسلام ليس مجرد عقيدة بلا عبادة وعمل، وليس عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقًا بلا تعبد، وليس عقيدة وعبادة وأخلاقًا بلا تشريع ونظام يسود الحياة.
ثوابت المسلمين ذات قرار مكين، مستمدة من توجيهات الإسلام وهي صمام الأمان لهم، تقيهم من الضياع والانفلات، وتصل بهم إلى بر الأمان.
نتحدث عن الثوابت في حياة الأمة لأننا في عصر حفل بألوان من العلوم والمعارف راجت فيه مفاهيم متنوعة وتصورات مختلفة، عصرٌ يموج بالأحداث الجسام والأطروحات المستجدة، وبرز التأثير فاعلاً، فقد التقى العالم مشرقه بغربه، وجنوبه بشماله، ولا يكاد يمر يوم ولا تمر ساعة بل ولا تمر لحظة لا يُذكر فيها لفظ التغيير والتقدم والتطور من أقصى الأرض إلى أقصاها الآخر، وغدت قضية التطوير القضية الكبرى في حياة المسلمين.
وظهر على الساحة مع كل أسف من يتكلم باسم العلم والعلماء، صاروا يشككون الناس في ثوابت هي مستقرة عندهم، كانوا لا يقبلون فيها صرفًا ولا عدلاً. وشأن من ينتسب للعلم قد يهون عند صحفيين وقصّاص الجرائد والمجلات وممثّلين عبر الشاشات والفضائيات، صاروا هم المفتين في هذا الزمان.
ما بالنا نواجه هذه الأيام سيلاً من الكتابات والمقالات لأناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، صاروا يطعنون في ثوابت ديننا؟! حتى أحيانًا تتساءل عن هؤلاء الكتّاب: هل هم أقلام مستأجرة، أم أذناب للغرب، أم هم علمانيون لهم أهداف سيئة، أم قد يجتمع في بعضهم كل هذا وغيره؟! بل أحيانًا تتساءل: هل هؤلاء الكتّاب مسلمون أصلاً يؤمنون بنصوص الكتاب والسنة، مع أنهم يلبسون الزيّ الرسمي لأهل البلد حين توضع صورهم في زوايا مقالاتهم؟! لكن ما يصدر من أقوالهم العفنة وعقولهم الخربة عبارة عن كلام سيئ بعيد كل البعد عن المظهر الخارجي الذي يظهرون فيه على صفحات الجرائد والمجلات.
لقد أصبح التشكيك والتشويه الآن في كل شيء؛ في حجاب المرأة، وأصبحت تقرأ السخرية بالعلماء ورجال الدعوة وأهل الخير والصلاح، وتقرأ مقالات تشكّك بالسنة النبوية، وأصبح هؤلاء القصاص يصحّحون ويضعفون، وكأن صاحب المقال إمام من أئمة الحديث كأبي زرعة وابن حجر أو غيرهم، وصار التشكيك في مسائل أجمع عليها أهل العلم. أما الجهاد في سبيل الله فقد لقي حظًا كبيرًا من الطعن والتشويه، مع أنه باق إلى قيام الساعة، فما دام هناك كفر وإيمان في الأرض وحق وباطل فالجهاد باق.
متى كنا نتصور أن نقرأ بعض عبارات الردة من بعض الجرائد؟! كان هذا الأمر بعيد جدًا، واليوم تشم رائحة الردة في بعض المقالات. أما الكذب والتشهير والإثارة على حساب الثوابت والمسلَّمات فحدث ولا حرج. بل قد وصل الأمر إلى عرض مسلسلات تُعرض على الناس على أنها برامج اجتماعية هادفة لحل بعض القضايا والمشاكل، لكنه في حقيقة الأمر طعن في مسلَّمات وثوابت الدين، بل سخرية من قضايا قررها الشارع، مثل المحرَم بالنسبة للمرأة، والسخرية بمدرِّسي العلوم الشرعية، بل الاستهزاء والسخرية بعادات وتقاليد العديد من المناطق ممن هم في إطار جغرافي واحد. وجعلوا مقابر المسلمين موضعًا للتمثيل والتصوير، فتسأل وتقول: أين حرمة المسلم الميت الذي هو من ثوابت ديننا؟!
عجيب أمر هؤلاء! والأعجب من يظن أن التقدم والتطور بهذه الطريقة؛ الطعن في المسلَّمات والثوابت. إن هذه الفئة المتصدرة لمنابر الإعلام في هذا الوقت ممن يسمّون أنفسهم بالتنويريّين هم أخطر شريحة على المجتمع، بل خطرهم ربما يفوق خطر اليهود والنصارى، والمجتمع اليوم يمر بأمواج متلاطمة من الأفكار والآراء المصادمة لثوابت ومسلمات عندنا، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
وبين فترة وأخرى نفاجأ ببرامج وأطروحات أصبحت تمرَّر على الناس والناس يتقبلونها دون علم أو وعي، فمثلاً قضية الرأي والرأي الآخر، الذي صار يقدَّم للناس في برامج وحلقات عبر الفضائيات أو الإذاعة أحيانًا، هل تعلمون ماذا تعني هذه العبارة؟ وهل كل شيء يقبل فيه الرأي الآخر؟ فإذا كان معي إيمان فالرأي الآخر هو الكفر، وإذا كنت على السنة فالرأي الآخر هو البدعة. فالرأي الآخر في كثير من القضايا لا يمكن أن يقبل خصوصًا في الثوابت والمسلَّمات والأصول. فهم بهذه الطريقة يريدون أن يصلوا بالمجتمع أن يقبل كل شيء وإن كان يتعارض مع أصول الاعتقاد والمبادئ.
إن الإسلام ـ يا عباد الله ـ لا يمكن أن يقف ضد التطوّر النافع السائر في إطار الشريعة، ولهذا لا عجب أن تجد الإسلام يحث على العلم النافع والعمل والحركة، لا عجب أن نجد كتاب الإسلام الخالد يحدثنا في قصة آدم عليه السلام عن العلم، وفي قصة نوح عن صناعة السفن، وفي قصة داود عن إلانة الحديد، يحدثنا عن التخطيط الاقتصادي في قصة يوسف، وعن صناعة السدود في قصة ذي القرنين، ويقرّ الرسول نتائج الملاحظة والتجربة في شؤون الحياة كما في مسألة تأبير النخل فيقول: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)).
هذا هو الإسلام، لا يعوق سيرَ الحياة، ولا يؤخر نموها، بل فيه الدافع الذي يحفز على السعي والحركة مع الضمان أن تضل أو تنحرف عن الطريق.
إن التحديث الحق والتطوّر النافع هو السعي للتقريب بين واقع المجتمع المسلم في كل عصر وبين المجتمع النموذجي الأول الذي أنشأه رسول الله ، يكون ذلك بإحياء مفاهيم ذلك المجتمع وتصوراته للدين، يكون ذلك بإحياء مناهج في فهم النصوص وبيان معانيها، يكون ذلك بإحياء مناهج في تدوين العلوم والتعلم واقتباس النافع الصالح من كل حضارة وتنقية المجتمع من شوائبها.
إن مما أرهق المسلمين وأساء إلى الإسلام هو الانحراف مع دعوى التطوير في ثوابت الدين وركائز الإسلام في العقيدة والقيم، مما ينتهي بالأمة لو استجابت لها إلى الانسلاخ من العقيدة والتحلل من الأخلاق والذوبان في الثقافات البشرية الأخرى.
والأدهى ـ عباد الله ـ أن يُنظر إلى ما له صلة بالدين وهدي المرسلين أنه رجعي قديم يجب التحلل منه لمسايرة ركب الحضارة زعموا. إن من رجع بأفكاره وعقيدته إلى الجيل الأول لا يُعد رجعيًا، بل هو مسلم صادق يطلب الطهر والعفاف، وهنا تتبين مسألة شرعية أن رَمي المسلمين بالرجعية لأنهم تمسكوا بشريعة رب العالمين ردّة عن الإسلام.
إذا كان التقدم والتطور والتغير على زعمهم نبذ الخلق والفضيلة وتسهيل مسلك الرذيلة فبئست هذه التقدمية، فليس كل تقدم محمودًا. والتقدم نحو السلب والنهب والعري والخمر والفسق والفجور، التقدم لنبذ الفضيلة وارتكاب الرذيلة لا يُعد محمودًا، التقدم نحو تهييج الشهوات وإثارة الأهواء وتقوية النفس الأمارة بالسوء تقدم نحو الدمار والهلاك.
من الأمور المنكرة ـ عباد الله ـ تحت مظلة التقدم والتطور والتنوير تبرير قِيَم غير المسلمين باسم سماحة الإسلام وتطوير الإسلام وانفتاحه أو تطوير الشريعة الإسلامية، ولا ريب أن باب الاجتهاد مفتوح للعلماء المجتهدين الربانيين فحسب، إلا أن هناك قواعد كلية لا يجوز الاجتهاد فيها، وأصولاً ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.
إن قيمنا الراسخة المستمدة من الكتاب والسنة هي الضمان الأوحد لإعداد جيل المستقبل، وإن البعد عن الصراط المستقيم تنكُّب للطريق، حتى لو قلنا: إنه مسايرة لطبيعة العصر الحديث. هناك فرق شاسع في المفهوم الانفتاحي على الآخرين وتبعية الأمة، ذلك أن عزة الأمة تأبى التبعية كي لا تذوب في المجتمعات الأخرى وتتبع أهواءها، ولا تقلدها ولا تتشبه بها، فتفقد بذلك أصالتها وشخصيتها المتميزة، فيضيع الدين والدنيا معًا.
أليس قد أنيط بهذه الأمة مهمة إنقاذ البشرية من سُعار الحضارة المادية؟! إنها لن تستطيع ذلك إذا أصابها هي من شررها وشرورها ما أصاب الآخرين من أدواء المادية والإباحية. أليست هذه الأمة مطالبةً بأن تقدم البديل للحضارة المعاصرة؟! إنها لن تستطيع ذلك إذا هي قلدت غيرها، واتخذتها مثلَها الأعلى، واتبعت سننها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.
أي نمو وتقدم للمجتمعات المسلمة يُعدّ محمودًا إذا كان يحقق الأهداف الأساسية لحياة المسلم، وأبرزها العبادة لله رب العالمين، خلافة الله في الأرض، عمارة الأرض. وبقدر ما يحقق الإنسان هذه المقاصد أو الأهداف يُعد تقدمه حقًا ونافعًا، قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [الأنفال:20-26].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|