أما بعد: أيها المسلمون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ وَٱلْيوْمِ ٱلْمَوْعودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:1-7].
إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء الذين فتنوا في دينهم، هؤلاء الذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. وكان نكالاً دنيويًا بالغَ القسوة وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهار إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار، هم ونساؤهم وأطفالهم؛ ليلقوا فيها، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها ترددت، لا خوفًا من النار ولكن رحمةً بالطفل، فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيّدا مثبّتًا مصبِّرًا: يا أمّاه، اصبري فإنك على الحق، فتلقِي المرأةُ الضعيفةُ بنفسها وهي تحمل طفلها الرضيع في تلكم النار.
إنه مشهد مروّع وجريمة عظيمةٌ، يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها، فإذا هي قصة مليئة بالدروس مشحونة بالعبر، فهل من مدكر؟!
لقد ذكر النبي قصة أصحاب الأخدود لأصحابه كاملة واضحة، ورواها الإمام مسلم في صحيحه، فَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((كَانَ مَلِكٌ فيِمَنْ كَانَ قبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِك: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابعَثْ إِلَيَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يعَلِّمُهُ، وَكَانَ في طَريقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمهُ فأَعْجَبهُ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِب وَقَعَدَ إِلَيْه، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فقال: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِر فَقُلْ: حبَسَنِي أَهْلي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحرُ. فَبيْنَمَا هُو عَلَى ذَلِكَ إذْ أتَى عَلَى دابَّةٍ عظِيمَة قدْ حَبَسَت النَّاس فقال: اليوْمَ أعْلَمُ السَّاحِرُ أفْضَل أم الرَّاهبُ أفْضلَ، فأخَذَ حجَرًا فقالَ: اللهُمَّ إنْ كان أمْرُ الرَّاهب أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هَذِهِ الدَّابَّة حتَّى يمْضِيَ النَّاسُ، فرَماها فقتَلَها ومَضى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهب فأخبَرهُ، فقال لهُ الرَّاهبُ: أي بُنيَّ، أَنْتَ اليوْمَ أفْضلُ منِّي، قدْ بلَغَ مِنْ أمْركَ مَا أَرَى، وإِنَّكَ ستُبْتَلَى، فإنِ ابْتُليتَ فَلاَ تدُلَّ عليَّ، وكانَ الغُلامُ يبْرئُ الأكْمةَ والأبرصَ، ويدَاوي النَّاس مِنْ سائِرِ الأدوَاءِ. فَسَمعَ جلِيسٌ للملِكِ كانَ قدْ عمِي، فأتَاهُ بهداياَ كثيرَةٍ فقال: ما ها هنا لك أجْمَعُ إنْ أنْتَ شفَيْتني، فقال إنِّي لا أشفِي أحَدًا، إِنَّمَا يشْفِي الله تعَالى، فإنْ آمنْتَ بِاللَّهِ تعَالَى دعوْتُ الله فشَفاكَ، فآمَنَ باللَّه تعَالى فشفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فأتَى المَلِكَ فجَلَس إليْهِ كما كانَ يجْلِسُ فقالَ لَهُ المَلكُ: منْ ردَّ علَيْك بصَرك؟ قال: ربِّي، قَالَ: ولكَ ربٌّ غيْرِي؟! قَالَ: رَبِّي وربُّكَ الله، فأَخَذَهُ فلَمْ يزلْ يُعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الغُلاَمِ فجيءَ بِالغُلاَمِ، فقال لهُ المَلكُ: أي بُنَيَّ، قدْ بَلَغَ منْ سِحْرِك مَا تبْرئُ الأكمَهَ والأبرَصَ وتَفْعلُ وَتفْعَلُ فقالَ: إِنَّي لا أشْفي أَحَدًا، إنَّما يشْفي الله تَعَالَى، فأخَذَهُ فَلَمْ يزَلْ يعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الرَّاهبِ، فجِيء بالرَّاهِبِ فقيل لَهُ: ارجَعْ عنْ دِينكَ، فأبَى، فدَعا بالمنْشَار فوُضِع المنْشَارُ في مفْرقِ رأْسِهِ، فشقَّهُ حتَّى وقَعَ شقَّاهُ، ثُمَّ جِيء بجَلِيسِ المَلكِ فقِيلَ لَهُ: ارجِعْ عنْ دينِكَ فأبَى، فوُضِعَ المنْشَارُ في مفْرِقِ رَأسِهِ، فشقَّهُ به حتَّى وقَع شقَّاهُ، ثُمَّ جيء بالغُلامِ فقِيل لَهُ: ارجِعْ عنْ دينِكَ، فأبَى، فدَفعَهُ إِلَى نَفَرٍ منْ أصْحابِهِ فقال: اذهبُوا بِهِ إِلَى جبَلِ كَذَا وكذَا فاصعدُوا بِهِ الجبلَ، فإذَا بلغتُمْ ذروتهُ فإنْ رجعَ عنْ دينِهِ وإِلاَّ فاطرَحوهُ، فذهبُوا به فصعدُوا بهِ الجَبَل فقال: اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شئْت، فرجَف بِهمُ الجَبَلُ فسَقطُوا، وجَاءَ يمْشي إِلَى المَلِكِ، فقالَ لَهُ المَلكُ: ما فَعَلَ أَصحَابكَ؟ فقالَ: كفانيهِمُ الله تعالَى، فدفعَهُ إِلَى نَفَرَ منْ أصْحَابِهِ فقال: اذهبُوا بِهِ فاحملُوه في قُرقُور وَتَوسَّطُوا بِهِ البحْرَ، فإنْ رَجَعَ عنْ دينِهِ وإلاَّ فَاقْذفُوهُ، فذَهبُوا بِهِ فقال: اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شِئْت، فانكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفينةُ فغرِقوا، وجَاءَ يمْشِي إِلَى المَلِك، فقالَ لَهُ الملِكُ: ما فَعَلَ أَصحَابكَ؟ فقال: كفانِيهمُ الله تعالَى، فقالَ للمَلِكِ إنَّك لسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تفْعلَ ما آمُركَ بِهِ، قال: ما هُوَ؟ قال: تجْمَعُ النَّاس في صَعيدٍ واحدٍ، وتصلُبُني عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ خُذ سهْمًا مِنْ كنَانتِي، ثُمَّ ضعِ السَّهْمِ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُل: بسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلاَمِ، ثُمَّ ارمِنِي، فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتنِي. فجَمَع النَّاس في صَعيدٍ واحِدٍ، وصلَبَهُ عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سهْمًا منْ كنَانَتِهِ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ في كبدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْم اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ رمَاهُ فَوقَعَ السَّهمُ في صُدْغِهِ، فَوضَعَ يدَهُ في صُدْغِهِ فمَاتَ، فقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ، فَأُتِيَ المَلكُ فَقِيلُ لَهُ: أَرَأَيْت ما كُنْت تحْذَر قَدْ وَاللَّه نَزَلَ بِك حَذرُكَ، قدْ آمنَ النَّاسُ، فأَمَرَ بِالأخدُودِ بأفْوَاهِ السِّكك فخُدَّتَ، وَأضْرِمَ فِيها النيرانُ، وقالَ: مَنْ لَمْ يرْجَعْ عنْ دينِهِ فأقْحمُوهُ فِيهَا أوْ قيلَ لَهُ: اقْتَحمْ، ففعَلُوا حتَّى جَاءتِ امرَأَةٌ ومعَهَا صَبِيٌّ لهَا، فَتقَاعَسَت أنْ تَقعَ فِيهَا، فقال لَهَا الغُلاَمُ: يا أمَّاهْ، اصبرِي فَإِنَّكَ عَلَى الحَقِّ)) روَاهُ مُسْلَمٌ.
إن قصة أصحاب الأخدود كما وردت في سورة البروج وكما ذكرها النبي حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل، فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها كان يخط بها خطوطًا عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ودور البشر فيها واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع، وهو أوسع رقعة من الأرض، وأبعد مدى من الحياة. إنها قصة فئة آمنت بربها واستعلنت حقيقة إيمانها، ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين مستهترين بحق الإنسان في حرية الاعتقاد والإيمان بالله العزيز الحميد، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها، ويتلهّون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق. وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة، ولم تُفتن عن دينها وهي تُحرق بالنار حتى تموت. لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة، فلم يستذلها حبّ البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعًا، وارتفعت على ذواتها.
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيّرة الكريمة هناك قلوب جاحدة شريرة مجرمة لئيمة، جلس أصحابها على النار، يشهدون كيف يتعذّب المؤمنون ويتألمون، جلسوا يتلهّون بمنظر الحياة تأكلها النار، والبشر يتحولون وقودًا وترابًا، وكلما ألقي فتى أو فتاة صبية أو عجوز طفل أو شيخ من المؤمنين الخيرين الكرام في النار ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوسهم، وعربَد السعار المجنون بالدماء والأشلاء.
أيها المسلمون، والتاريخ يتكرّر ولكن بصور أخرى، الحقيقة واحدة والشكل يتغير. إن عقول الفئة الكافرة لم تتغير منذ قديم الزمان إلى عصرنا الحالي، فنرى اليهود قد ارتكبوا أبشع الجرائم في فلسطين المسلمة، والروس قاموا بأفظع المذابح في أفغانستان، والصرب قتلوا وشردوا ويتّموا الكثير من العوائل في البوسنة والهرسك ومن بعدها في كوسوفا، ويعود الروس ثانية لجرح المسلمين جرحًا جديدًا في الشيشان، والآن تمارس الصليبية ما تمارس من أقسى أنواع الوحشية وأشد صور الإجرام في العراق. إنّ كل هؤلاء ظلمة مجرمون وإن اختلف شكل الأخدود.
إن قصة أصحاب الأخدود تتكرّر عبر الزمان في أكثر من مكان، وضحيتها هو هذا الإنسان.
إن نظرة البشر لكل شيء تطوّرت مع مرور الزمن إلا نظرة الكفار للمسلمين ودمائهم، فنرى الجمعيات أنشئت للرفق بالحيوان والمحافظة على البيئة، ولكن لم يتخذ أي إجراء حقيقي ولم تنشأ أي جمعية أو رابطة لحفظ دماء المسلمين وأعراضهم. لماذا كل هذا الحقد على المسلمين من جهة وتجاهلهم من جهة أخرى؟! الجواب في قول الله تعالى في قصة أصحاب الأخدود: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُّؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.
حقيقة ينبغي أن يتأمّلها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل؛ إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئًا آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. إنها ليست معركة سياسية، ولا معركة اقتصادية، ولا معركة عنصرية، ولا معركة من أجل البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ولا معركة لمحاربة الإرهاب وهم أصحاب الإرهاب، ولكنها في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام.
وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدوًا لهم، فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة، إِلاَّ أَن يُّؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة؛ راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية، كي يموّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة. فمن واجب المؤمنين أن لا يُخدعوا، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيّت، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها.
أيها المسلمون، ولنرجع إلى قصة أصحاب الأخدود، ولنطوِ عبرَها كلّها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، تومض من خلال هذا العرض للقصة، تنفعنا هذه العبرة ونحن نواجه اليوم أشد أنواع المكر والكيد من كفار الأرض، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ، وذكرت تلك النهاية المروعة الأليمة لتلك الفئة المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفر التي أضرمت فيها النار، بينما لم يرد خبر في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، لم تذكر الآياتُ عقوبة دنيويّة حلّت بهم، لم تذكر أن الأرض خسفت بهم، ولا أن قارعة من السماءِ نزلت عليهم، انتهت القصّة بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود، والإعراضِ عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تذكر عقوبتهم الدنيويّة ولا الانتقام الأرضي منهم. فلماذا أُغفل مصيرُ الظالمينَ؟! أهكذا ينتهي الأمر؟! أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود، بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة، تذهبُ ناجية؟! هنا تبرز الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ القرآن وأعادت وكررت وأكدت وهي أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه؛ ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية: وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ [البروج:8، 9]. فهذا الذي جرى كلّه جرى في ملكِه ليس بعيدًا عن سطوتِه، وليسَ بعيدًا عن قدرتِه، إنما في ملكه: وَٱللَّهُ عَلَى كُلّ شَيء شَهِيدٌ [البروج:9]. فهذا الذي جرى لم يجر في غفلةٍ من الله، ولا في سهو من الله، كلا، ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيد على ذلك، مطلع عليه، إذًا فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟ كيف يقترفون ما قارفوا ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟! يأتي الجوابُ: كلا لم يفلتوا، إن مجال الجزاء ليست الأرض وحدَها، وليست الحياة الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقي لم يجئ بعد، وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة، أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقيةُ والجزاء الحقيقي فهناك: إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ [البروج:10]، هؤلاء الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيُحرقون، ولكن أين؟ في جهنم، نعم في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة، وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق في شدته وفي مدته، أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق؟! أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله؟! أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله؟! أين حريق الدنيا باستخدام الصواريخ الملتهبة والقنابل الذكية وحريق نار جهنم الذي أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة؟! هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه، وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة، أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربةَ ماء.
إن الدنيا هينة على الله جل وعلا، مر النبيُ وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم تلقى عليها النفايات والفضلات والجيف، فإذا بالرسول ينفردُ عن أصحابه ويتّجه صوب سباطة هؤلاء القوم ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوّهِ الخلقةِ قد مات، مشوّه الخلقة، صغير الأذن، قد انكمشت أذنه، فأمسك النبيُ بهذا التيس الميت فرفعه، ثم أقام مزادًا علنيًّا ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطبًا أصحابه: ((أيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم؟)): من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟ وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة شرائية، ولذا ألقيت مع الفضلات، قالوا: يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حيًا لما ساوى درهمًا لأنه مشوه، فكيف وهو ميت؟! لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم؟! فألقاهُ النبي ، وهوت الجيفة على السباطة، والنبي يقول: ((للدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم)).
إن الدنيا هينة على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفة التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. وإذا كانتِ الدنيا هينة على اللهِ هذا الهوان فإن اللهَ جل جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه، وأيضًا لم يجعل العذاب فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه، كلا، إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين، قال الله تعالى: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰبًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزّل على رسول الله تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقيّ والعقوبةَ الحقيقيةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبّرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25، 26]، وقال الله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ [يونس:46].
بارك الله لي ولكم...
|