أما بعد: عباد الله، لقد أعز الله هذه البلاد بأن جعلها مهبط الوحي ومنبع الرسالة، وقامت بفضل الله على التوحيد، رغم ما مَرَّ بها من عواصف وأحداث عالمية ومحلية، وما زالت ـ بفضل من الله ثم بفضل قادتها وعلمائها وأهل الخير فيها ـ نبعا لا ينضب لدعم المسلمين ونشر العقيدة الصحيحة في كل مكان، حتى امتازت بهذا، وأصبح علماؤها مصدر ثقة وطمأنينة لدى كل مسلم في الأرض.
ولهذا كانت وما زالت محاولات التشويه والتضليل والهجوم على عقيدتها ومقدساتها وهيئاتها ومؤسساتها وعلمائها ومناهج التعليم فيها والمرأة بحجابها وعفافها، ولا عجب أن نسمع هذا من اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الإسلام، بل وليس عجبا أن نسمع هذا من أذنابهم من المنافقين الذين وصفهم القرآن وفضح أساليبهم في سورة التوبة: لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:48]، قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين: لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة.."، وهكذا هو ديدن المنافقين أمس واليوم وغدًا، كيد ومكر وجرأة وصفاقة وسخرية بالدين وأهله من علماء ودعاة وصالحين، واستهزاء بشرائع الدين من لحية وتقصير ثوب وغير ذلك، وبكل طريقة من مقال ورسم كاريكاتوري وغمز ولمز، وكنت قد حذرت في الأسبوع الماضي في وقفات مع التفجيرات ممن يصطاد في الماء العكر، ويستغل الفرص لهواه من اتهام الأبرياء أو تعميم الأخطاء أو رمي المناشط التربوية والمدارس القرآنية ومناهج التعليم ومنابر الدعوة كلها بالانحراف، وذكرت أن هذا مما يُسبب التطرف والغليان، خاصة في نفوس الشباب الذين يقرؤون ويسمعون الاتهامات الكاذبة تُوجه إليهم وإلى محاضنهم ولا يملكون إلا الاحتقان والانفعال، ولكن كما قال حذيفة بن اليمان : (إن المنافقين اليوم شرٌ منهم على عهد النبي ، كانوا يومئذٍ يُسرون واليوم يجهرون) أخرجه البخاري.
وكان من الممكن ـ معاشر الإخوة والأخوات ـ أن نتغافل عن مثل هذه الحملات، ونستغل الوقت ببيان حقيقة العلاج لأسباب تفجيرات الرياض، وتوجيه شباب الإسلام لمنهج أهل السنة والجماعة طريق الحبيب وأصحابه، طريق الحكمة والموعظة والمجادلة الحسنة، طريق طاعة ولاة الأمر وشد أزرهم والنصح لهم في المنشط والمكره، لولا أن هذا النزف زاد عن الحد، وهذا القيح أخذ صديده في المد، وضاقت نفوس الكثير من المسلمين العارفين، ولخشية التباس الأمر على العامة وتأثيره على شباب أمتنا، وأيضًا لظن أمثال هؤلاء المنافقين أننا وإن استنكرنا الحدث وأدنَّاه وأوضحنا خطورة هذا المنهج وأبنّاه ووقفنا مع ولي أمرنا ونصرناه أننا سنطأطئ رؤوسنا ونغمض أعيننا وسنخجل؛ لأن تلك الفئة صنعت ما صنعت باسم الدين، وأنها ستكون فرصة لهم للتدليس والتضليل، ولِبَثّ سمومهم والتهويل، فهم مخطئون خاسرون، فإننا على يقين ـ والحمد لله ـ بمنهجنا وطريقنا، نقول لمن أخطأ: أخطأت، ولمن جنى على النفوس البريئة الآمنة: هلكت وخسرت، دون تردد أو حياء، لكننا لا نقولها جزافًا أو رمي الكلام على عواهنه، بل نقولها بأدب المسلم، نقولها بإنصاف وتثبت وبمنهج واضح عظيم، نفعل ذلك مع الكافرين فكيف بالمسلمين الباغين والمعتدين؟!
من أجل ذلك كله كان لا بد من كلمة حق نصرةً للدين، وإنصافًا للعاملين المخلصين، وبيانًا لإرجاف المرجفين، وفضحًا لكيد ومكر المنافقين، فنحن في دولة مسلمة، وكلنا مسلمون، وازدراء بعض شعائر الإسلام طعنة في خاصرتنا جميعًا، بل إنها قد تدفع باتجاه مزيد من الإرهاب والتطرف، فلا بد من وضع حد لمثل هذه الأقلام الساخرة بشرائع الإسلام.
فالمتأمل في آيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام يلحظ اهتمامًا بالغا بمسؤولية الكلمة وأمانة قولها، فالرقابة دقيقة: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، والمسؤولية شاملة كاملة: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]. والكلمة كلمتان: طيبة وخبيثة، والطيبون للطيبات، والخبيثون للخبيثات، وكلمة الحق ثابتة لا تزعزعها الأعاصير ولا تعصف بها رياح الباطل, يشهد لها القاصي والداني. وأما الكلمة الخبيثة فكشجرة خبيثة تؤذي بنتنها الجميع إلا المزكوم في فكره، يشهد بخبثها القاصي والداني، وسبحان ربي أيها المؤمنون، ألا تعجبون؟! ففي الوقت الذي تجلجل فيه الكلمة الطيبة من العلماء والمسؤولين والمثقفين الغيورين والتربويين الناصحين والصحفيين المنصفين لمواجهة هذا الحدث بالحكمة والبحث عن أسبابه الحقيقية والتناصح والتحاور للوصول لعلاج ناجع لمثل هذا الفكر والزيغ، أجلب أهل النفاق بخيلهم ورجلهم لبث سمومهم وإخراج أضغانهم على منهج هذه البلاد الطيبة واستقامة أهلها، بل أمعنوا في تسديد سموم أقلامهم لمفاتيح الخير والعطاء والبناء من العلماء وطلاب العلم والدعاة والمعلمين ورجال الهيئات والعاملين في المؤسسات الخيرية والإغاثة وكل خيّرٍ ومصلح، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].
لقد ملك هؤلاء قلوب الناس جميعًا وحب الناس وثقة وتقدير الناس، فشرِقَ المنافقون وامتلأت قلوبهم، فشمروا كل التشمر، وخلعوا جلد الحَمِل، ولبسوا جلد النَّمِرِ، ولم يبق في القوس منزع، وانكشف ما وراء الأكمة، وظهر المخبوء، فألقوا الكلام على رُسَيْلاَتِهِ، فلجّوا وصجوا وملؤوا القرطاس وصالوا وجالوا وقالوا ومالوا.
على رسلكم يا هؤلاء، فإننا نعرف سبب نزفكم وتقرحكم، فلقد كان لهؤلاء جهد في الوقوف لمنكراتكم وفضح لمخططاتكم ونصح لولاة الأمر لإظهار مكركم، ولقد وُفق سمو وزير الداخلية وفقه الله في رد مكرهم وكيدهم، في سؤال حول عدد من التقارير والاتهامات الموجهة للمملكة وبالذات لبعض المؤسسات والهيئات الدينية الموجودة بالمملكة، والتي ذكرت هيئة الأمر بالمعروف بالاسم، واقترحت أنه آن الأوان بإنهاء أو إلغاء مثل هذه الهيئات التي تسهم في تفريخ الإرهابيين، فما هو تعليق سموكم حول هذا الأمر؟ فقال سمو وزير الداخلية: "بالنسبة لما ذكرت عن وجود لجان أو هيئات دينية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبصفتك مواطن سعودي فإني آسف أن يكون هذا مفهومك؛ لأن هذه الهيئات الموجودة ومنها هيئة الأمر بالمعروف هذه هيئات حكومية، هيئات الدولة، والدولة دولة الإسلام، وستظل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة ما دام الإسلام قائما في هذه الأرض؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن أساسي في الدولة الإسلامية. والحمد لله نحن دولة إسلامية، وستظل باقية قائمة بأعمالها، وكذلك ما يماثلها من مؤسسات. أما كون أنه يحدث خطأ أو أخطاء من أفراد فهذا لا يغير من مكانة هذه الهيئة أي شيء، ثم هذه الأخطاء تحدث في الأجهزة الأخرى الحكومية التي هي بعيدة عن هذا المجال"، وأضاف سموه قائلا: "أرجو أن يكون مفهوما أنه ليس هناك أي تفكير في التغيير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القائم في المملكة، ولكن هناك تطوير، هناك تحسين في الأداء، هناك تقيد بالتمسك بالأمر بالمعروف كما ورد في كتاب الله وسنة نبيه". إلى آخر كلمات سموه جزاه الله خيرًا، والتي تنم عن فهم عميق لمكر هؤلاء وكيدهم.
عباد الله، ولا يعني هذا عدم وجود خلل أو أخطاء عند الصالحين والخطباء والدعاة وأهل الخير، بل هناك تراكمات وأخطاء وتقصير، ويحتاج إلى مراجعة جادة ومناصحة وتوجيه وتصحيح، لكن ليس طريقه بمهاجمة مظاهر الصلاح، ولا بالسخرية والاستهزاء، ولا بتنقص العاملين في طريق الدعوة والخير والبناء، بل بنقد الكاتب المنصف الناصح، وعندها: أهلاً وسهلاً بالنقد البناء والنصح الصادق، وكلنا معًا على طريق الصلاح والاستصلاح، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
فاتقوا الله عباد الله، وقولوا قولاً سديدًا، واحذروا شبه المنافقين وسماعها، فإن الله قال عنهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]، قال ابن كثير: "وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير"، وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ "أي: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم". فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ من المنافقين وأساليبهم، وتنبهوا لخداعهم وأحابيليهم، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
وعلينا جميعًا أن نقف في وجه هؤلاء وحربهم على ديننا، فلا يسع السكوت، بل لا بد أن تتحرك كل الطاقات دفاعًا عن دينها، كل بما يملك من قلم سيال ولسان ناصح ودعوة في ظهر الغيب لهم بالهداية، وأن يكفي الله المسلمين شرورهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|