الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله، لئن ساء كلَّ مسلم ما نُشِر في بعض صُحُف الدانمارك فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله لم يَخْلُق شَرًّا مَحْضًا، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
فقد تضمّن ذلك السوء خيرًا، منه أنه ظهر وانكشف وجه الحقيقة عن وجه الحضارة الغربية، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، وظهر لكل ذي بَصَر عداوة النصارى، وأنّ من يطلب رضاهم مُتطلِّب في الماء جذوةَ نار، وقول الله أصدق وأبلغ: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. كما تجلّى نفاق بعض الصُّحُف والكُتَّاب الذين التَزموا الصمت تجاه هذا الْخَطْب الْجلل، فماذا عساهم يقولون؟! ماذا عسى أُغَيْلِمة الصحافة وسفهاء قومي يقولون؟! أليسوا الذين كانوا يُلمِّعُون الغَرْب والغُراب تحت شِعار (الآخر) سَتْرًا للكافر؟! إلا أنّ الحقيقة التي تجلّتْ كشَفَتْ عن وجوه من الحقائق وصَمت من كانوا يُنادون باحترام (الآخر) ومن كانوا يَودّون لو صَمَتَ دُعاة الإسلام، أليسوا هم من يُنادي بـ(حُريّة الفِكر)، فإذا هم يُنادون بـ(حُريّة الكُفْر)؟! إذا تكلّم (صادق) نَصَبُوا له العِداء، وإن تَبجّح (كافر) سَكَتُوا وكأنّ الأمر لا يَعنيهم، وهو لا يعنيهم لأن حبّهم للنبي دعوى من غير بيِّنَة.
ها هو (الآخر) بزعمكم يتطاول على دين الله وعلى رسول الله ، فبماذا أجبتم؟! تَهَافتْ دعاوى (قبول الآخر) الذي لم ولن يَقبلكم حتى يجتمع الماء والنار والضَّب والحوت، شأنكم في ذلك شأن ذلك (الْمُتَفَرْنِس) الذي أمضى عمره في التذلّل للغرب ولو كان على حساب دِين ومبدأ، فإذا الغرب يَرفضه ويَلفظه، بل وينبذه نَبْذ الحذاء المرقّع، وها هو يقول عن نفسه: "وأصبح (محمد أركون) أصوليًا متطرفًا، أنا الذي انْخَرَطْتُ منذ ثلاثين سنة في أكبر مشروع لنقد العقل الإسلامي أصْبَحْتُ خارجَ دائرة العلمانية والحداثة"، ويقول أيضا: "والمثقف الموصوف بالْمُسْلِم يُشار إليه دائمًا بضمير الغائب، فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثّله أو هضمه في المجتمعات الأوروبية؛ لأنه يَسْتَعْصِي على كلّ تحديث أو حداثة".
وقد أخبر الله عن ذلك الرفض وعن تلك العداوة المتأصِّلة بقوله: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
وفي هذا الْحَدَث تميّز الطيب من الخبيث والصادق من الكاذب، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
إذا اشتبكت دموع في خُدود تَبَيَّنَ من بَكى ممن تباكى
تبيَّن الْمُحبّ الصادق لرسول الله من الدَّعِيّ الْمُدَّعِي، وفي الغرب (مُنصِفُون) قد تُثيرهم تلك الحملات الشعواء على طلب الحقائق، فيهدي الله بِتلك الصحيفة رجالاً ونساء كانوا في (عَمَاء). ومن سُنّة الله: ((إن الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر)) كما في الصحيحين، وفي شِعْر أبي تمام:
وإذا أراد الله نَشْـر فَضَيـلة طُويت أتَـاحَ لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جَاوَرَتْ ما كان يُعْرَف طِيب عُرف العُود
إن الصِّدام المباشِر والمساس الواضِح أبلغ وأيقَظ للقلوب، وهذا يُبيِّن مدى خطورة الغزو الفكري، وأنه أخطر من الغزو العسكر وإن كان مُدمِّرًا؛ ذلك أن اليهود والنصارى يقولون في الله قولاً عظيمًا، ومع ذلك وُجِد من يُحبّهم أو يتعاطَف معهم، إلا أن هذا الذي صَدَر من نصارى الدانمارك أيقظ في الأمة قلوبًا غافلة أو مُستَغفَلة، فالنصارى قالت قولاً عظيمًا في الله من قَبْل ومن بعد، قالوا في الله قولاً عظيمًا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا. وما قالته النصارى في حقّ الله أعظم وأكبر، وقد أخبر الله وخبره الحقّ وقال وقوله الصِّدْق: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ.
وإن تلك الحملات الشعواء على الإسلام وأهله لم تُغيِّر قناعات الشعوب. إن ما يُقال أو يُثار ضدّ الإسلام أو ضدّ نبيِّه يسوء كل مسلم، إلا أنّ هذا الشرّ لا يَخلو من خير، هُم يُريدون أمرًا، والله يُريد أمرًا، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. دبّروا ومكروا وقلّبوا الأمور، فأبْطَل الله سعيهم، ووردّ كيدهم في نحورهم، وحاق بهم مكرهم. وهذه سُنَّة الله في نصر أوليائه وخُذلان أعدائه.
لقد سَعى المنافقون بكل حيلة، فَصَرّفوا الأمور، وأرادوها ظهرا لبطن وبَطْنًا لِظَهْر، وطلبوا بكل حيلة إفساد أمر رسول الله ، فَنَصَرَ الله نبيّه، وأظْهَر دينه، قال تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ، وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ أي: دَبَّرُوها من كل وجه، فأبْطَل الله سعيهم، كما قال ابن كثير: "يقول تعالى مُحَرِّضًا لِنبيه عليه السلام على المنافقين: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ، أي: لقد أعْمَلُوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخُذلان دِينك وإخماده مدة طويلة؛ وذلك أول مَقْدَم النبي المدينة رَمَتْه العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال عبد الله بن أبيّ وأصحابه: هذا أمْرٌ قد تَوَجَّه، فَدَخَلُوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلّما أعَزّ الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم، ولهذا قال تعالى: حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ" اهـ.
وقد أقسم النبي على نُصْرَة هذا الدِّين، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزّ عزيز، أو بِذُلّ ذليل، عِزًّا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) رواه أحمد وهو صحيح. والله ليكونن هذا وإن رَغِمَتْ أنوف، والله ليُتمَّنّ الله نوره ولو كَرِه الكافرون.
وفي الأخير نقول: يا حكامَ المسلمين، إن الواجب الشرعي يُحَتِّم عليكم الغضبَ لرسولكم وأن تجتمعوا وتتخذوا القرار المناسب تجاه هذه الممارسات الظالمة، وليتذكّر كل واحد منكم أن هذا العدوان الآثم على رسولنا الكريم لو كان موجهًا لواحد منكم لأقام الدنيا ولم يُقعِدها غضبًا وانتقامًا، فليكن غضبكم وحَميَّتكم لرسولكم أكبر من غضبكم لأنفسكم ودنياكم، وتذكروا قول المصطفى : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))، وفي رواية: ((من أهله وماله والناس أجمعين)) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه.
ويا علماءَ الإسلام ودعاةَ الملة، إن الواجب الشرعي يحتم علينا جميعًا أن نوظّف هذا الحدث توظيفًا إيجابيًا بتكثيف الجهود في دعوة الناس لدين الإسلام والتركيز على ثوابت الدين ومحكَماته، وفي مقدمة ذلك بيان عقيدة الولاء للمؤمنين والعداء للكافرين، وتجلية سيرة سيد الخلق إذ إن هذا هو الرد الناجع والمؤلم لأعداء الإسلام.
ونختم بدعاء عمر رضي الله عنه في القنوت: اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يُكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين. وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
|