أما بعد: فيقول الله عز وجل: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30]، وقال تعالى: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، ويقول الحق تبارك وتعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، ويقول تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] أي: مبغضك هو المحروم والمقطوع من خيري الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون، لا يخفى عليكم حديث الساعة، مما جاء في بعض صحف دولتي الكفر الدنمارك والنرويج من اعتداء وتطاول على مقام النبوة العظيم، والحديث عما فعلوه مفصّل في وسائل الإعلام المختلفة.
لقد ذبحوا الشيوخ فأُسكِتنا، وقتلوا الأطفال فأُصمِتنا، وهَتكوا الأعراض فأُلجِمنا، أما وأنهم سبّوا نبينا وحبيبنا ومن جعلت أرواحنا فداه فلا وألف لا.
هكذا يفعل عباد الصليب، لم يتركوا نبيًا إلا نالوا منه، فامتلأت أناجيلهم المحرّفة بالنيل من الأنبياء وسبهم حتى صوّروهم بأبشع الصور التي يستحَى من ذكرها، أمّا أن يصل الأمر للاعتداء على نبينا الكريم وخير خلق الله أجمعين فلا والله، لن نسكت ولن نقف مكتوفي الأيدي، نحن المسلمون الوحيدون الذين نؤمن بنوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.
أيها المسلمون، نبيّكم محمد سيد ولد آدم، نبي تقيّ ورسول نقي، أحبه الله واصطفاه، واختاره واجتباه, جمع الله له بين الخلّة والتكليم، وجعله أكثر الأنبياء أتباعًا وأعلاهم قدرًا ومقامًا، سماه الله أحمد، فذو العرش محمود وهو محمّد، كان أجوَد الناس بالخير، كان أجوَد بالخير من الريح المرسلة, ما عرض عليه أمران إلا أخذ بأيسرهما، أشد حياءً من العذراء في خدرها، ومن حيائه أنه لا يصوّب النظر في عين أحد إلا أرخى عينه، ما عاب طعامًا قط, إن اشتهاه أكله وإلا تركه، إذا تكلم لا يسرع ولا يسترسل، ولو عدّ العادّ حديثه لأحصاه، لا يحبّ النميمة، ويكره أن يبلِغَه أحدٌ عن أحدٍ شيئًا، يقول أنس رضي الله عنه: خدمت الرسول عشر سنين، والله ما قال لي: لم فعلت كذا؟ ولم لم تفعل كذا؟ وهلا فعلت كذا. يحلم على الجاهل، ويصبر على الأذى، يبتسم في وجه محدّثه، وإذا صافح أحدًا لا ينزع يده حتى يكون الآخر هو الذي ينزع، يقبل على محدثه حتى يظن محدثه أنه أحبّ الناس إليه، يسلم على الأطفال ويلاعبهم، يجيب دعوة الحر والعبد، ويعود المرضى حتى أهل الكتاب. ما اقترب أحد من أذنه يريد أن يكلمه حتى يسبقه فيحني رأسه له، يبدأ من لقيه بالسلام، خير الناس لأهله، يعلّمهم ويصبر عليهم، ويغضّ الطرف عن أخطائهم، ويعينهم في أمور البيت، يخصِف نعله, ويخيط ثوبه، يأتيه الصغير فيأخذ بيده يريد أن يحدّثه في أمر فيذهب معه حيث شاء، يجالس الفقراء، ويجلس حيث انتهى به المجلس، ويكره أن يقوم له أصحابه، وقاره عجَب، لا يضحك إلا تبسمًا، ولا يتكلم إلا عند الحاجة، ليس فاحشًا ولا متفحّشًا ولا صخابًا بالأسواق، لا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، لا يقابل أحدا بشيء يكرهه وإنما يقول: ((ما بال أقوام...))، لا يغضب لنفسه ولكن لحرمات الله يغضب.
دخل مكة فاتحًا منصورًا، فلم يدخل متكبرًا متجبرًا مفتخرًا شامتًا، وإنما كان مِلأه التواضع والشكر والحمد. وقف أمامه رجل عند الطواف فأخذت الرجل رِعدة عند وقفته أمامه فقال له: ((هوّن عليك؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة)). زهد في الدنيا وقد أتته راغمة، فكان يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، ويمر الشهر تلو الشهر ولا يوقد في بيته النار، وإنما طعامه الأسودان. كان رحيما بأمته, أعطاه الله دعوة مستجابة فادخرها لأمته يوم القيامة.
وكما كان أحسن الناس خُلُقًا كان أحسنهم خَلقًا، حتى يقول جابر رضي الله عنه: رأيت رسول الله في ليلة أُضحيان وعليه حلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلَهو كان أحسن في عيني من القمر.
شهد بفضله الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء، يقول صاحب كتاب (الخالدون المائة): "لقد اخترت محمدًا في أول القائمة لأنه الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي". وألّف إنجليزي كتابًا اسمه (محمد)، أحرقته السلطات البريطانية الحاقدة، قال فيه: "إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، وإن رجال الدين في القرون الوسطى ونتيجة للجهل والتعصب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، فاعتبروه عدوًّا للمسيحية، لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصّلت إلى أنه لم يكن عدوًا للمسيحية، بل هو منقذ البشرية, ولو تولى أمر العالم اليوم لوفِّق في حل مشكلاتنا بما يؤمّن السلام والسعادة للبشر".
أيها المسلمون، لقد رفع الله ذكر نبيكم عاليًا، فلا يذكر الله إلا والنبي معه، ولا يتشهّد مؤذن إلا ويشهد برسالته، ولا يصلي مصلي إلا ويشهد له ويصلّي عليه، أرسله الله للناس عامة، فكان للعالمين نذيرًا، وكان خاتمًا للأنبياء والرسل، أقسم الله بحياته فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].
خاطب الله أنبياءه ورسله بأسمائهم فقال: يَا نُوحُ وقال: يَا إِبْرَاهِيمُ وقال: يَا مُوسَى وقال: يَا عِيسَى، ولم يخاطب نبيّنا إلا بوصف النبوة أو الرسالة، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ويَا أَيُّهَا الرَّسُولُ. أعطاه الله جوامع الكلم، ونصره بالرعب. تفرد عن الأنبياء بالقرآن باقيًا إلى يوم الدين، وأُعطي الإسراء والمعراج، وتشرّف بالوصول إلى سدرة المنتهى، فرأى من آيات ربه الكبرى. أمّ الأنبياء في بيت المقدس، وأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، وهي الشفاعة العظمى. كان بركةً على أمته، فكانت أمته خير الأمم، وجعلت لها الأرض مسجدًا وطهورًا، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة. هداها الله ليوم الجمعة، وجعلهم أكثر أهل الجنة. أيده الله نبيَّه بالمعجزات الباهرات، فانشقّ له القمر، ونبع الماء بين أصابعه، وكثر الطعام والشراب بين يديه، رقَّ له واشتاق الحيوان والجماد، فخرّ له الجمل ساجدًا، وأخبر بنبوّته الذئب، وحنّ الجذع وصاح لفراقه، وانقادَ الشجر له, وسبّح الطعام بحضرته، وسلّم الحجر عليه.
أيها المسلمون، لقد ضرب أصحاب النبي أروع المثل في صدق محبتهم لنبيهم، حتى قال خباب وهو على خشبة الصّلب: (والله، ما أحب أن أكون في أهلي ورسول الله في مكانه الذي هو فيه يشاك بشوكة). والصدّيق رضي الله عنه يسبقه إلى الغار يوم الهجرة، فيسد كل ثقب وفتحة في الغار، ويبقى ثقب يغلِقه بقدمه، فيُلدغ رضي الله عنه والنبي نائم على حجره, حتى تسقط دموع أبي بكر من الألم على وجه النبي . وهذا صاحب من أصحابه يغتمّ ويهتمّ لما فكر بأنه لن يرى النبي في الآخرة لأنه أرفع مكانة منه في الجنة، فأنزل الله: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. والمواقف في ذلك أكثر من أن تحصر.
أيها المسلمون، أذيّة النبي من أفظع الفظائع، فما تظاهر أحد بالاستهزاء به إلا أهلكه الله وقتله شرّ قتله, ذلك أن الله يدافع عن الذين آمنوا، فكيف بنبيكم؟! وذلكم أن الله قد تكفل بالحرب لمن آذى له وليًّا، فكيف به صلوات الله وسلامه عليه؟! وذلك أن الله تعالى قال: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
وانظروا لمصير المستهزئين به والمؤذين له وما أنزل الله بهم من العذاب، فأهلك الله أبا لهب، وجعل في جِيد امرأته حبلا من مَسد، وهذا الوليد بن المغيرة وأبو جهل وعقبة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل وغيرهم ممن انتقم الله منهم. مزّق كسرى ملِك الفرس كتاب النبيّ حين بعث به إليه، فمزّق الله ملكه، فقتِل على يد أقرب الناس إليه. وارتدّ رجل نصراني كان يكتب للنبي ، فكان يقول بعد ردته: لا يدرِي محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فكان كلّما دفنوه لفظته الأرض خارجَها، ففضحه الله. وكان المسلمون يحاصرون بعض الحصون، فتمتنع عليهم حتى ييأسوا، فما يلبث من بداخل الحصن أن يسخَروا ويسبّوا النبيّ ، فيفتح الله على المسلمين من فورهم. وفي المقابل كان من ملوك الفرنج من يحتفظون في صندوق مصفَّح بذهب بخطابٍ لرسول الله ، يقول أحدهم: ما زلنا نتوارثه إلى الآن، لقد أوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا. ولما قال ابن سلول قولته المشهورة: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسخّر الله ابنَ هذا المنافق عبد الله رضي الله عنه، فوقف له على أبواب المدينة شاهرًا له سيفه قائلا: (والله، لا تدخلها حتى تقرّ أنك أنت الذليل ورسول الله العزيز).
أيّها المسلمون، إن الواجب اليوم على المسلمين أن يهبّوا للدفاع عن رسولهم ونبيّهم ، ولئن كان الله قد تكفل بالدفاع عن نبيه فإن واجب النصرة ينبع من مكانةِ هذا النبي في قلوب المسلمين، فما من خيرٍ أصابنا إلا وله منّة علينا به؛ أخرجنا من الظلمات إلى النور، وكان بنا رؤوفًا رحيمًا، ولئن كنا ندافع عن نبينا اليوم فلِعلمنا بأن الطعن في صاحب الشريعة هو طعن في الشريعة ذاتها.
لقد قال النصارى واليهود في الله قولا عظيما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال له هدًا، ولكن ما فعله نصارى الدنمارك والنرويج أيقظ القلوبَ الغافلة والعقول الشاردة، وأعاد فتحَ الأعين النائمة. فلئن أراد هؤلاء السخرية والاستفزاز فقد أتاهم الله بأمر لم يحتسِبوه؛ لقد أتاهم الله بأتباع محمد الذين يبذلون حياتهم رخيصة في الدفاع عنه والانتقام له.
أيها المسلمون، لو تطاول أحد على شخوصنا أو قبائلنا أو رموزنا لقامت قيامةُ من انتُقِص, وهذا عِرض نبيكم يستهزَأ به ويسخَر منه ويشوَّه، إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا [التوبة:39].
لقد انطلقت حملة في الغرب قبل ذلك بعنوان: (مليون ضد محمد)، ولكننا نرجو أن يكون ردّنا: (مليار مع محمد). ووالله، إن تخليتم اليوم عن واجب النصرة فسوف يأتي الله بغيركم ثم لا تضرّوه شيئًا.
لقد وصل الذلّ بالمسلمين أن يستجدوا من هؤلاء الاعتذار، نريد منهم أن يعتذروا. لا والله، لن يجديَ اعتذارهم شيئًا، بل الأمر أكبر من ذلك وأخطر. إن سب النبي وانتقاصه جريمة عظيمة، ولقد أفتى علماء الإسلام أن من سبّ النبي فقد كفر، ولا تقبل له توبة في الدنيا، بل يقتل حتى وإن تاب، وأمره في الآخرة إلى الله. ونحن لا ندعو اليوم لقتال وسفكِ دماء، فهذا فعلُ المتهوِّرين والطائشين والجاهلين، ولكن هناك من الأعمال التي هي أبلغ ردٍّ للمسلمين على هذا الفعل، نبيّنها في الخطبة الثانية إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
|