أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة التوبة: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، يستظل المسلمون في أرجاء المعمورة في هذه الأيام بظلال ذكرى الهجرة النبوة الشريفة، تلك الهجرة التي لم تغير حياة العرب فحسب، بل غيرت مجرى التاريخ البشري. إنها الهجرة التي انفردت عن سائر الهجرات، فلم تكن هجرته عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كأي هجرة حدثت من قبل أو ستحدث من بعد، إنها هجرة فريدة من نوعها، وهذا ما حدا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يتخذ من حادثة الهجرة النبوية منطلقا للتاريخ العربي الهجري، وحصل إجماع من الصحابة الكرام على ذلك. وعليه فإننا نطالب المسلمين حكومات وشعوبا بالاهتمام بالتاريخ الهجري وعدم إهماله باعتبار أن حادثة الهجرة النبوية هي أهم وأبرز حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية. فحري بالمسلمين في كل زمان ومكان أن يحيوا هذه الذكرى، وأن يتدارسوا تفاصيل حادثة الهجرة، وأن يستلهموا العبر والعظات منها؛ فإن في هجرة المختار موعظة لنا وفي هجرة المختار تنبيها.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، لقد قال بعض المؤرخين المسلمين أن الهجرة من مكة كانت إيذانا بفتح مكة، لماذا؟ لأن الهجرة النبوية لم تكن هروبا من معركة أو فرارا من مواجهة، بل كانت تجسيدا للجهاد وترسيخا لقواعد الإيمان. ما كانت الهجرة طلبا للراحة والاستجمام ولا حرصا على الحياة، بل كانت استجابة لأمر رباني لاستئناف الحياة الإسلامية. لم تكن بحثا عن الخيام والأكل والشرب وتوزيع المؤن الغذائية، بل كانت ارتفاعا وتنزها عن العروض الدنيوية. ما كانت الهجرة النبوية طمعا في الاستيلاء على أرض أو قهرا لشعب ولا استغلالا لثرواته، وإنما هدفها السامي إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى وتطبيق حكم الله في الأرض، وتحقيق العدالة بين الناس وإيصال الحقوق للمظلومين وكف أيدي الظالمين.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، لم تمض ثماني سنوات من العمل الدؤوب والتخطيط الدقيق والجهاد المستمر حتى تحقق ذلك الفتح فتح مكة، والذي عرف بالفتح الأعظم لارتباطه بأقدس الأماكن ولاستعادته بأقل الخسائر، وتمكن الصحابة رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار من تنفيذ الالتزام الذي قطعوه على أنفسهم، وذلك بإدخال مكة إلى رِبقَة الإسلام وحظيرته ودولته، بعد أن تحققت الأخوة الإيمانية الصادقة بين المهاجرين والأنصار، فكانت المؤاخاة بينهم أكبر وأعظم إنجاز ونصر للإسلام والمسلمين.
فأين نحن من هذه المؤاخاة يا مسلمون؟! أين المسلم الذي يقسم أمواله بينه وبين أخيه المسلم المحتاج أو المهاجر؟! كيف كان وضع المهاجرين والنازحين من الشعب الفلسطيني؟! نعم لقد أخذ شعبنا الفلسطيني درسا قاسيا من المحن التي مر بها بسبب الهجرة في عام 1948م، وبسبب النزوح عام 1967م، فرابط في أرضه المباركة المقدسة، وألقى خلفه خيام الذل والهوان ليعيش عيش الكرامة وليكسب ثواب المرابطة في أرض فلسطين.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، لقد أثنى القرآن الكريم ومدح المهاجرين والأنصار على مواقفهم الإيمانية بقوله عز وجل في سورة الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]، كما وصف القرآن الكريم المهاجرين بالصادقين بقوله تعالى في سورة الحشر: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، ووصف القرآن الكريم الأنصار بالمفلحين بقوله عز وجل في السورة نفسها بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، إن الهجرة قد توقفت بفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)).
هذا وقد توصل الفقهاء إلى حكم شرعي يتعلق بالهجرة، ومفاده بأنه لا يجوز مفارقة الأوطان إلا إذا كانت الهجرة من أجل الجهاد في سبيل الله أو بنية خالصة لله عز وجل كطلب العلم أو السعي للرزق أو الفرار بالدين وبقصد العودة إلى الأوطان.
أيها المسلمون، في هذا المقام فإننا من على منبر المسجد الأقصى المبارك نقدم تحية إكبار وتقدير وثناء إلى إخواننا في مناطق 48 الذين ثبتوا على أرض فلسطين ولم يهاجروا إثر النكبة التي وقعت عام 1948م، وإلى إخواننا في مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة الذين ثبتوا على أرض فلسطين أيضا لم ينزحوا إثر نكسة حزيران عام 1967م.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، يتوجب على المسلمين خلال إحيائهم لذكرى الهجرة النبوية الشريفة إبراز الدروس والعظات من هذه الذكرى المجيدة، والتي من أبرزها المرابطة في الديار الإسلامية التي تتعرض للأخطار والدعوة إلى عدم الهجرة منها.
نعم أيها المسلمون، إن التنقل والسفر بين قطر وآخر من أقطار العالم الإسلامي أمر مباح ومشروع؛ لأن الإسلام لا يعترف أصلا بالحدود القائمة بين الأقطار الإسلامية، فهي حدود مصطنعة وغير مشروعة، ولكن هذا لا يعني أن يتهرب المسلمون من المسؤولية، وأن يهاجروا من القطر الذي يتعرض إلى الأخطار والاعتداء، فالنصوص الشرعية والأحكام الفقهية أوجبت الثبات في البلاد وعدم الهجرة منها وعدم هجرانها، جاء في الحديث الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
|