أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، اتّقوا الله، واذكُروا على الدّوامِ أنَّ تصرّمَ الأعوام مؤذِنٌ بانقضاءِ الآجالِ واقترابِ الرّحيل، فلَيكُن لكم في مرورِ الأيّام حسنُ الاعتبارِ، فإنّه الباعثُ على انتهاج نهج المراجعة والمحاسبة لإقامة العِوَج وتدارك الفارط وميول الغاية من رضوان الله.
أيّها المسلمون، إنَّ الحوادِثَ والوقائع الكبرى في حياةِ الأمَم مصدرٌ حافل بالعِبَر زاخرٌ بالمعاني غنيّ بالعظات؛ ولذا كان الوقوف عندَها وقفاتٍ متأمِّلة ديدنَ أولي الألباب وسبيل الأيقاظ وطريقَ الصفوة من عباد الله، الذين يبتغون بذلك الوسيلةَ إلى استخلاصِ تلك العِبر والمعانِي والعِظات؛ أملاً في تبيُّن أوضحِ المسالك للوصول إلى الغاية وبلوغ المنزل في مأمنٍ مِنَ الزَّلل ومَنجاةٍ من العِثار. وإذا كانت هذه الوقائع تسمو بسموِّ موضوعها وتشرُف بشرَف صانعيها فإنَّ ممّا لا ريبَ فيه أنّ الهجرة النبوية المباركة هي في الطليعة من هذه الحوادث؛ لتعلُّقها بأسمى رسالة وأشرف رسول.
ولا غروَ أن كان في أخبار الهجرة وذكرياتها مِن الدّروس والعبَر ما لا يكاد يحِيط به الحصر أو يستوعِبه بَيان، ففي خروجِ هذا النّبيِّ الكريم صلوات الله وسَلامه عَليه ومعه صاحبُه الصِّدّيق أبو بكرٍ رضي الله عنه مهاجِرَيْن مِن هَذا الحِمَى المبارَك والحَرمِ الآمِن والبلدةِ الطيِّبة التي قال عنها صاحبُ الهجرة في الحديث الذي أخرجَه أحمد في مسندِه والتّرمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عَديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسولَ الله وَاقفًا على الحَزْوَرَة يقول: ((وَالله، إنَّك لخيرُ أرضِ اللهِ وأحبُّ أرضِ الله إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ مِنكِ ما خرجتُ))، وقال عنها أيضًا فيما أخرجَه التّرمذيّ في جامعه بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: قالَ رَسول الله لمكّةَ: ((ما أطيَبَك مِن بلدٍ وأحبَّك إليَّ، ولولاَ أنَّ قومِي أخرجوني مِنكِ ما سَكنتُ غيركِ))، في خروجِه هذا مِن مَسقط رأسِه الشريف وفيه مراتِع الصِّبا ومرابِع الشباب، وفي مُفارقة الوطنِ التي هي مِن أشدِّ العُسر الذي يتكلّفه المَرء، في كلّ ذلكَ إيثارٌ منه لرِضَا ربِّه وطاعةِ خالقِه ومولاه، وفيه رعايةٌ لمصلحة دينِه، وفيه نشرٌ لعَقيدتِه بالعمل على اتِّساعِ دائرةِ الهِداية وإزالة العقبات مِن طريقِ الدَّعوةِ؛ ليكونَ للناسِ حقُّ الاختيَار وحريّةُ القرار، امتثالاً لقولِ الله تعالى: وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ الآية [الكهف:29]، وفي هذا رسالةٌ واضحة من صاحب الهجرة إلى الناس كافّةً أنَّ العقيدةَ أغلى منَ الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمَى من الدِّيار، وأنَّ الإيمانَ أثمنُ منَ الأوطان؛ لأنَّه قوام الحياة وعمادُها، به تطيبُ وتَزكو وتعلو وتسمو، وفي رحابه يعبد المرء ربّه تلك العبادةَ التي هي المقصود من خلق الثقلين كما قال عز من قائل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
وحينَ عظُم الخَطبُ وأَحدَق الخطرُ ببلوغِ المشركين بَابَ الغارِ الذِي كانَ فيه النبي وصاحبه رضي الله عنه قال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رَسولَ الله، لو أنَّ أحدَهم نظرَ إلى موضعِ نعلَيه لرآنا، فقال رسول الله قَولتَه تلك التي تأخذُ بمجامعِ القلوبِ وتصوِّر الإيمانَ في أَرفعِ مَقاماتِه وأسمَى دَرجَاتِه: ((يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما؟!))، وأنزَلَ سبحانَه مصداقَ ذلك في مَعرضِ التَّذكيرِ بالآلاء: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وأيُّ معيّةٍ ـ أيها الإخوةُ ـ تَعدِل هذه المعيّةَ؟! وأيّ قوّةٍ تكافِئ أَو تماثِل هذهِ القوّة؟! إنّها الحِصن الحَصينُ مِن كلِّ الغوائِل، والعدّة في كلِّ شِدّةٍ، والدّرع الواقي من كلِّ الشّرور، إنّها المعيّةُ الخاصّة بِالتّأييد والتّوفيقِ والحِفظِ والنّصر؛ ولذا جعَلها الله للمتّقين المحسِنين من عباده كما قال عز اسمه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
وبالجملةِ فإن الهجرة النبوية الشريفةَ كانَت بحقٍّ فَتحًا مبِينًا ونَصرًا عَزيزًا وتمكِينًا وظهورًا لهذَا الدّينِ، وهزيمةً وذُلاًّ وصَغارًا على الكافرين. وإنَّ هذه الأمةَ المسلِمة خليقةٌ بأَن تأخذَ من ذكرياتِ الهجرةِ المددَ الذي لا ينفَد والمَعينَ الذي لا يَنضَب والزَّادَ الذي لا يفنَى، فتختطَّ لنفسها خطّةَ رشدٍ ومناهج سير ومعالمَ هداية وسبيل سعادة؛ إذ هيَ جَديرة بأن تبعثَ في الأمة المسلِمة اليومَ ما قد بعثَته فيها بالأمسِ مِن روحِ العِزَّة وبواعثِ السموِّ وعواملِ النصر وأسبابِ التَّمكين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين [الأنفال:30]، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين.
نفعنِي الله وإيَّاكم بهَديِ كتابِه وبِسنَّة نبيِّه ، أقول قولي هَذا، وأَستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرّحيم.
|