أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فإن تقوى الله خلَف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ.
عباد الله، لا يخفى عليكم ما قامت به الصحف الدنماركية من الحملة الإعلامية الشرسة المحمومة على أزكى البشرية وخير البرية من تشويهٍ لسيرته ووصفه بأقبح الأوصاف في رسوم شنيعة وصور قبيحة، تبًّا لهم ساء ما يعملون. وعلى مدى ثلاثة أشهر وهذه الصحف تصرّ على غيِّها وتتمادى في طغيانها، غير آبهة بمقامه الشريف أو مشاعر المسلمين في شرق الأرض وغربها.
وقد عمد إخواننا من الجالية المسلمة في الدنمارك، ومعهم غيرهم من المواطنين الدنماركيّين، وكذلك غيرهم من المقيمين في الدنمارك إلى إنكار هذه السخرية التي نالت أشرف إنسان في التاريخ، فكُتبت المقالات ووُجّهت الرسائل إلى الحكومة الدنماركية وإلى الصحيفة المعنية، مطالبين بالاعتذار عن هذا العمل والكَفِّ عن مثله مستقبلاً، وقد تظاهر في شهر أكتوبر الماضي أكثر من 5000 مسلم وغيرهم من المتعاطفين معهم في عاصمة الدنمارك ضدّ الصحيفة وطالبوها بالاعتذار. غير أن السلطات هناك ومسؤولي الصحيفة رفضوا ذلك بمبرّرات حرّية الإعلام والتعبير، وأنه لا شيء يستثنى من شموليته وحريته.
ولا زال مسؤولو الصحيفة والحزب الحاكم الذي تنتمي إليه يرفضون الاعتذار، وينوون الاستمرار في منهجهم المتهجّم على الرسول الكريم الذي قال الله له: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، متجاهلين بذلك المواثيق والأعراف الدولية، غير مبالين بالاعتراضات المقدَّمة إليهم.
فكان من الواجب علينا وعلى غيرنا ممن حمَّلهم الله أمانة البيان والبلاغ البيان في ذلك وإنكاره غضبة لله وانتصارًا لرسوله ، إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل.
فلنا مع هذا الحدث هذه الوقفات نعتذر فيها إلى الله من قلّة حيلتنا وضعف قوّتنا وهواننا على الناس، نجملها في وقفات معدودة، مِدَادُهُا دمُ القلوب، ورقعتها مُهْجَةُ الأنفس، نقولها دفاعًا عن أحبِّ حبيب ومن هو أعز علينا من كل قريب، ونذيعها ذودًا عن أزكى البرية وأطهر البشرية صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر :
الوقفة الأولى: نقدّمها لكم أنتم أيها المؤمنون، وللمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فرسولكم محمد شامة في جبين التاريخ، فما أشرقت الشمس ولا غربت على أطهر منه نفسًا، ولا أزكى من سيرة، ولا أسخى منه يدا، ولا أبر منه صلة، ولا أصدق منه حديثًا، ولا أشرف منه نسبًا، ولا أعلى منه مقامًا. جمع الله له بين المحامد كلّها فكان محمّدًا، ورفع الله ذكره وأعلى قدره فكان سيدًا. هو سيد ولد آدم ولا فخر، سيبعثه الله يوم القيامة مقامًا محمودًا، تتقاصر دونه الأطماع، وتتطامن دونه الأماني، إنه الشفاعة العظمى يوم الموقف، يوم أن يتخلّى عنها أولو العزم من الرسل ويقول هو : ((أنا لها، أنا لها)).
جمع المحامد كلّها، وحاز من المكارم أجلّها، محمود عند الله؛ لأنه رسوله المعصوم ونبيه الخاتم وعبده الصالح وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه وخليله من أهل الأرض، ومحمود عند الناس؛ لأنه قريب من القلوب حبيب إلى النفوس، رحمة مهداة ونعمة مسداة، مبارك أينما كان، محفوف بالعناية أيمنا وجِد، محاط بالتقدير أينما حلّ وارتحل.
كان العرب يعيشون جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، كانوا أسارى شبهات وأرباب شهوات، يعبدون الأصنام، ويستقسمون بالأزلام، ظلّوا على هذه الحال إلى أن بزغ نور الإسلام وسطع فجر الإيمان وتألّق نجم النبوة.
ولِد الهادي العظيم، فكان مولده فتحًا ومبعثه فجرًا، بدّد به الله جميع الظلمات، وهدى به من الضلالة، وعلّم به من الجهالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وكثّر به بعد القلّة، وأعزّ به بعد الذلّة، وأغنى به بعد العيلة. فصلى الله وسلّم عليه ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، فلن تضيره هذه السّخرية مهما عظمت أو تكاثرت، كما أخبرنا بذلك ربُّنا في القرآن العظيم.
ونحن نعتقد أن الله سبحانه سيحمي سمعة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، ويخلد ذكره الحسن، ويصرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم؟! يشتمون مُذَمَّمًا، ويلعنون مُذَمَّمًا، وأنا مُحَمَّدٌ)). فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله: ((يشتمون مُذَمَّمًا)) كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مُذَمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فَعَلَ الله بمذمَّم. ومُذَمَّم ليس هو اسمه عليه الصلاة والسلام، ولا يُعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره".
وهكذا تلك الرسوم التي دعت الجريدة الرسامين لرسمها ونشرتها على صفحاتها، إنها قطعًا لا تمثل رسول الله محمدًا ، لا في رسمها، ولا في رمزها، لا في رسمها أي: ملامح الوجه، فوجه محمد هو الضياء والطهر والقداسة والبهاء، وجهه أعظم استنارةً وضياءً من القمر المسفر ليلة البدر، وجه محمد يفيض سماحةً وبشرًا وسرورًا، وجه محمد له طلعةٌ آسرة، تأخذ بلب كل من رآه إجلالاً وإعجابًا وتقديرًا. ولا في رمزها، فمحمد ما كان عابسًا ولا مكشرًا، وما ضرب أحدًا في حياته، لا امرأة ولا غيرها، تقول عائشة زوج رسول الله ورضي الله عنها: ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. رواه البخاري ومسلم.
وإنه لمن الحسرة والبؤس على الصحيفة الدنماركية وعلى حكومة الدنمارك أن يكون مجرد علمهم عن محمد رسول الله هو ما استهزؤوا به، مما أوحت به إليهم الأنفس الشريرة، وصدق الله: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30].
الوقفة الثانية: السخرية بالأنبياء لن تزيد العالَم إلا شقاءً وبؤسًا، فلا يخفى أن العالم اليوم يشهد اضطرابات عديدة، أريقت فيها الدماء وأزهقت الأرواح بغيًا وعدوانًا، بما يجعلنا أحوج ما نكون لنشر أسباب السلم والعدل، وخاصةً احترام الشرائع السماوية واحترام الأنبياء والمرسلين، فهذا المسلك يتحقّق به حفظ ضرورات البشر في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وغير ذلك من حقوقهم ومقومات عيشهم الكريم.
وإن مثل هذه الأطروحات العدائية والاستفزازية لن تزيد العالم إلا شقاءً وبؤسًا، ذلك أننا جميعًا بحاجة لمصادر الرحمة والهدى، والتي يسَّرها رب العالمين على يدي رسوله محمد ، فكان المستهزئون به عليه الصلاة والسلام المشوّهون لحقيقة حياته ورسالته ممن يصدّ الناس عن الخير ويمنع من استقرار العالم وطمأنينته، وهذا الصنف من الناس توعّده الله في كتابه وندّد بسوء فعالهم: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ [إبراهيم:3].
وإنَّه لمن المؤسف لحال البشرية اليوم مع ما وصلت إليه من التقدم في مجالات عديدة من علوم الدنيا بما تتضمنه من الاكتشافات المبهرة، ثم يأتي في هذا الخضم من العواصم التي تدَّعي التحضر أصواتٌ مبحوحة وكتابات ساقطة تتردّى معها تلك المجتمعات بسبب إسقاطات أخلاقيّة نحو المقدسات.
الوقفة الثالثة: إن ادعاء هذه الصحيفة وما تتشدّق به من حرية التعبير في نشرها لتلك الرسوم الساخرة من محمد رسول الله ادعاءٌ غير مسلَّم ولا مقنع؛ لأن جميع دساتير العالم ومنظّماته تؤكّد على احترام الرسل وعلى احترام الشرائع السماوية واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بينة.
وقد جاء في ميثاق شرف المجلس العالمي للفيدرالية الدولية للصحفيّين ما ينصّ على ذلك؛ ولذلك حين نطالب الصحيفة والحكومة الدنماركية بالاعتذار وبمنع تلك الإساءات لاحقًا فإننا نعتمد أيضًا على ميثاق صحفي شريف، جاء فيه: "سيقوم الصحافي ببذل أقصى طاقته لتصحيح وتعديل معلومات نشرت ووجد بأنها غير دقيقة على نحو مسيء".
ولا شك أن ما نشرته الصحيفة الدنماركية مسيءٌ لأكثر من مائتي ألف من مواطني الدنمارك، ومسيء لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص، ومعهم غيرهم من المنصفين من أصحاب الملل الأخرى، كلّهم يعظّمون رسول الله محمدا عليه الصلاة والسلام، وسيبقى ذلك العمل مسيئًا لكل المسلمين ما بقيت هذه الحياة على وجه الأرض، وستبقى الدنمارك ـ إذا لم تعالج هذه الإساءة ـ مصدر قرف واشمئزاز من عقليات تقطن فيها وتعادي الرسل والشرائع السماوية وتسخر بها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|