أما بعد: فيا حجاج بيت الله الحرام، ويا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه ومراقبته في السر والعلن والخلوة والجلوة، فافعلوا الخيرات، واجتنبوا السيئات، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
حجَّاجَ بيت الله الحرام، إنّ هذا اليومَ هو آخر أيّام التشريق في الحجّ، والذي ترمَى فيه الجمراتُ للمتأخِّرين، ثم ينفِرون بعد ذلك من منًى متمِّمين ما بقيَ لهم من النسك، بعد أن عاشوا أجواء روحانيّة واستنشَقوا نسماتٍ إيمانيّةً جعلتهم إلى الله أقرَبَ ومن معصيته أبعد، لقد أحسّوا أنفاسَ الأخوَّة، ووجدوا ريحَ الوحدَة والعدل والمساواة، ولقد وقف مئاتُ الألوف بمئاتِ اللّغات على صعيدٍ واحد، يدعون ربًّا واحدًا، ويتّبعون نبيًّا واحدا، كلٌّ منهم قد ناجى ربَّه ومولاه بلغاتٍ مختلفة، لا تشغَلُه لغةٌ عن لغة، ولا لِسان عن لسان، ولا دعاءٌ عن دعاء، يجيب دعوةَ هذا، ويغفِر زلّةَ ذاك، ويرَى دمعةَ هذا، ويسمَع أنينَ ذاك، فلا إلهَ إلا الله، إنّه بهذهِ الجموع يُذكون في النفس استشعارَ مشاهد القيامةِ، حينما يجمَع الله الأوّلين والآخرين على صعيدٍ واحد، حفاةً عراة غُرلاً، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
ألا إنَّ من خاف مشاهدَ المحشرِ فلن يغلِبَه الأشرُ ولا البَطَر، وسينطلِق بالطاعة والتوبةِ لينقذَ نفسه من سقَر، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:27-30].
حجّاجَ بيت الله الحرَام، ها هي أعمالُ الحج أوشكَت على الانصرامِ، فما أنتم فاعلون؟! أتَكون التوبَة النصوح والعملُ الصالح والاستقامة على طاعةِ الله بعد الحجّ هي النبراسَ لكم فيما بقي لكم من أعمار، أم هو التساهُل والتخاذل والتدابُر والتفريط في جنب الله؟! أهُو إتباع السيئة الحسَنَة أم إتباع الحسنات السيئات؟! ألا إنّ من علامات قبول العمل أن يواصلَ المرءُ الطاعةَ بالطاعة، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
أيّها المسلمون، إنّ علينا جميعا أن ننقلَ ما شاهدناه في مناسك الحجّ من مشاعر الوحدة والتلاحم والتآخي والعدل والمساواة إلى واقعِنا اليوميّ وميداننا العملي، فما الحجُّ إلا نقطةُ انطلاقةٍ لترجمانِ حِكَمِه بين المسلمين في شَتى الأقطار. إنّه ينبغي لكل حاج أن يرجعَ إلى قومه وهو يحمِل في نفسه معنى الوحدةِ وحاجة الأمة إليها، وأنّ هذه الوحدَة لا يمكن أن تتحقَّق في أرضِ الواقع على اختلافٍ في مصادِر التلقّي، ما لم يكن المصدَر واحدًا وهو كتاب الله وسنّة رسوله .
ألا ترونَ ـ يا رعاكم الله ـ أنّه يحرُمُ مِن الرضاعة ما يحرم من النّسب؟! وأي رضاع أنشز للمحبة والإلفة من رضاعِ المعاني الإسلامية السامية؟! إنّنا بهذه العبارات لا نلتَمِس من المسلمين أن يكونَ مالك الأمر فيهم جميعًا شخصًا واحدًا وسلطانا متفرِّدًا، فإن هذا من العسر بمكان، ولكنهم غيرُ عاجزين عن أن يكونَ الوحي هو سلطانهم جميعًا، وهو الكتاب والسنّة.
إذا كان الأمر كذلك ـ عبادَ الله ـ فإنَّ البكاءَ لا يحيِي الميِّت، والأسفَ لا يردّ الفائت، والحزنَ لا يدفع المصيبةَ، بل إنّ العمل مفتاحُ النجاح، والصدقَ والإخلاصَ مع متابعةِ الرسول سُلَّم الفلاح. إنّه لا مناصَ مِن الوحدةِ في الدين والمصدر إن رُمنَا صحوةً من سبات، وعلينا أن ندركَ جميعًا أن الظلَّ لن يستقيمَ والعود أعوَج، ولن يرضى بالعوجِ إلاّ من جعل الله نفسه ممن كَرهَ اللهُ انْبِعاثَهُم فَثبَّطَهُم وَقِيل: اقعُدُوا مَع القاعِدين.
ثم اعلموا ـ حجّاجَ بيتِ الله الحرام ـ أنّ الحج يذكِّرنا بخطبةِ الوداع الشهيرةِ التي ألقَاها النبيّ على مسامِعِ الحجيج، وأشهَدَهم عليها، والتي أكَّد فيها صلواتُ الله وسلامه عليه على حفظِ الضروراتِ الخمس وهي الدين والعقل والنفسُ والمال والعرض، فقد قال صلواتُ الله وسلامه عليه في الخطبة عن حفظ الدين: ((وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به: كتاب الله))، وقال صلواتُ الله وسلامه عليه عن حفظ العقل: ((ألا إن كلَّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع))، وقال صلواتُ الله وسلامه عليه عن حفظ النفس والمال: ((إن دماءكم وأموالكم حرم عليكم))، وقال أيضًا: ((ودماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أوّل دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، كان مسترضعًا في بني سعد، فقتلته هُذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلِّب، فإنّه موضوع كلّه))، وقال صلواتُ الله وسلامه عليه عن حفظ العرض في تلكم الخطبة: ((فاتَّقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، وإنّ لكم عليهن أن يوطئن فرُشَكم أحدًا تكرهونه)).
ألا فاتّقوا الله حجاج بيتِ الله الحرام، وأَروا الله من أنفسكم توبةً نصوحا واستقامةً وثباتًا على دينه، وارجِعوا إلى أوطانكم قدوةً صالحة للأهلِ والأولاد والمجتمعات، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كن غفّارًا.
|