الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له على توفيقه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا هو جل جلاله وتقدست أسماؤه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله دعا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وأحب سنته وتخلق بخلقه إلى يوم الدين.
وبعد: عباد الله، ومع مرور عام كامل وانقضاء مرحلة من مراحل العمر بخيرها وشرها، فلنتحدث عن خبر الرجال الأربعة، فهل سمعتم بها مسبقا؟! هم أربعة رجال خرجوا من بلادهم، تركوا أهاليهم وعشيرتهم طلبًا للرزق، وانقطعت أخبارهم عمن وراءهم، حتى مضى عام كامل فكانت أخبارهم على النحو التالي:
أما الأول منهم فقد عاد لأهله بما تعجز عن حمله المراكب الثقال، ففرح به أهله وفرح بهم، فكان في نعيم لا يوصف.
وأما الثاني فقد عاد صفر اليدين لا له ولا عليه، عاد كما راح، فكانت رحلته بمثابة الفرصة الأخيرة له لتحسين معيشته فأضاعها، ولم يفلح فيها، وبقي يرجو تلطف من حوله عليه.
وأما الثالث فكان يتوارى من صحبه عند عودته؛ إذ قد عاد وهو يبحث عمن يسدّد عنه أجرة المركب الذي عاد به، فكان وبالا وخسارة على أهله قبل سفره وبعد عودته، فيعيش في حسرة، يأمل خلاصا ولا يجد له سبيلا.
وأما الأخير فقد قعدت به ديونه وحبسته عن العودة إلى أهله وبلاده، فبقي يائسا محطمًا معذبًا في نفسه وفي حبسه.
هذه ـ عباد الله ـ حكاية حكاها وعاظ السلف ليشرحوا لنا حالنا، كيف سيكون بعد نهاية سفرتنا هذه، سفرتنا إلى الله والدار الآخرة الله.
إخوة الإسلام، الله الله في أنفسنا، أوصيكم ونفسي أن نكون كما كان الأول، وصل إلى أهله رافعًا رأسه، فرحًا بهم وفرحين هم به، مثقلا بالخيرات لنفسه ولهم، ولا نكن كالآخرين عادوا بهم أكثر مما كانوا فيه، فرح بحالهم عدوهم ومن كرههم. تخيل نفسك بين يدي ربك، وجميل إن تخيلتها أن تتخيلها في حال جميلة تفرح بها الآن، علك أن تفرح بها يوم القيامة، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:18-32]
مثل وقوفك يـوم العرض عريانـا مستوحشا قلق الأحشاء حيرانـا
والنـار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقـرأ كتابك يـا عبد علـى مهل فهل ترى فيه حرفا غير ما كانـا
لما قـرأت ولَم تنكـر قـراءتـه إقرار من عرف الأشياء عرفانـا
نـادى الجليـل خذوه يا ملائكتِي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
المشركـون غدا في النـار يلتهبوا والْمؤمنـون بدار الخلد سكانـا
عبد الله، خذ من تصرم الأيام عبرة، واحمد الله أن مد في عمرك، وأتاح لك الفرصة لتتزود مما يتمناه غيرك من سكان القبور ومقعدي الفرش والدور، واعلم أنك في نعمة إن لم ترعها الآن عضضت أصابعك ندما على فواتها. عد إلى سيرة نبيك المصطفى فتخلق بما تستطيع التخلق به من أعماله وصفاته، ولا تبخل على نفسك بصغير ولا كبير مما يمكنك عمله، وخذ من قول رسول الله نبراسًا تسير على هداه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة)).
الدين ـ بحمد الله ـ كل أعماله وتكاليفه في مقدور البشر، وما خرج عن القدرة سقط. فالزموا السداد وهو الطريق الصواب بغير إفراط ولا تفريط، إن لم تستطيعوا بلوغ الكمال فاحرصوا على ما يقربكم إليه. وأبشروا إن صدقتم العمل والقصد بقرة عين لا تخطر لكم على بال، ولا تشددوا على أنفسكم ولا على الناس أمور دينهم، واستعينوا على التقرب إلى ربكم بالأوقات التي تحبها أنفسكم وتنشط فيها للعبادة، كما يحرص المسافر على الأوقات التي يرتاح للسفر فيها.
ثم اعلموا أن أكثر ما يصلكم بنبيكم هو الصلاة والسلام عليه في كل حين، وبالأخص في يوم الجمعة، فصلوا عليه وسلموا تسليمًا كثيرًا...
|