أما بعد: أيها المسلمون، فإن أجدر ما قدِّم في الوصايا وأُتبع في الكلام بعد التحايا الوصية بتقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]. وصَّى الله بالتقوى أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين وعمومَ العالمين، فاتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه؛ يكن لكم في كلِّ موطن ترجونه، ويكفِكم كلَّ سوء تحذرونه.
حُجَّاج بيت الله الحرام، هنيئًا لكم ما أصبَحتم في مما أصبَح الناس فيه، ورَدتم بيتَ الله المعظَّم، وقصَدتم ركنَ الإسلام الأعظم، وتفَيّأتم ظِلالَ بقاعٍ قدّس الله أرضَها وعظّم أمرَها وأعلَى قدرها، بِها تُضاعف الحسناتُ وتُرفع الدرجات وتغفَر الذنوب والخطايا، لَطَالما تمنَّيتم، فهذه أمانيكم قد ورَدتموها، وهذه الرُّبى التي عشقتموها، أنتم ضيفُ الله ووَفده، والواجب إكرام الضيف ورِفده، هنيئًا لك شرفُ الزمان والمكان، جئتم في رحلةِ الحياة ومواكِبِ الإيمان ملبِّين نداءَ الرحمن مِن كلّ فجٍّ عميق آمِّين البيتَ العتيق: لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبيك.
في الصّحيحين أن النبيَّ قال: ((مَن حجَّ هذا البيت فلم يرفُث ولم يفسُق رجع كما ولدته أمه))، أي: نقيًّا من الذنوب والآثام قد مُحيَت عنه السيئات والخطايا، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) رواه البخاريّ ومسلم، وفي الصّحيحين أيضًا أنَّ النبيَّ سئِل: أيُّ الأعمال أفضَل؟ قال: ((إيمانٌ بالله عز وجل))، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: ((جِهاد في سبيل الله))، قِيل: ثم ماذا؟ قال: ((الحجّ المبرور)).
هذا هو الحج، جعلَه الله ركنًا من أركان الدين، وأوجبَه على القادرين، فقال سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، ناهِيكَ عَن مُضاعَفَة الأجورِ ونَفَحات الرّحمة في عرفَات والوقوفِ بالمشعر الحرامِ والمبيت في منَى والتقلّب في فجاجِها ورميِ الجمرات والعجّ والثّجّ والطوافِ بالبيت والسّعيِ بين الصفَا والمروة وإجابَة الدعاء في كلِّ موطن.
حجَّاجَ بيت الله الحرام، أما وقد أقرّ الله عيونَكم برؤية البيتِ العتيق واطمأنَّت قلوبكم بجوارِ المقام والحطيم وحلَّت أجسادُكم هذه الرحابَ الطاهرة فعظِّموا شعائرَ الله يزِدكم إيمانًا وتقوى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
ومِن تعظيم الشعائرِ إحسانُ العمل وإتمامُه والحرصُ على كمالِه واتِّباع هديِ النبيِّ في كلّ صغيرٍ وكبير، وقد قال: ((خذوا عني مناسككم)).
أقبِل على عبادتك بأدبٍ وخشوع، وتفرّغ لما جئتَ له وقصدتَه، حافظًا لوقتك، مخلِصا لربك، واحرِص على تمام حجِّك، غيرَ متهاونٍ ولا متتبّع للرُّخَص، فالله تعالى يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
تجنّب المراءَ والجدل والخصام والتشويشَ، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
أيّها المؤمِنون، جِئتُم صادِقين ملبِّين، استجابةً لدعوةٍ لم ينقطع صدَاها عبر القرون: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28].
ألا وإنَّ من أعظمِ المنافعِ التربيةُ على إخلاصِ الدّين لله تَعالى الذي جعلَ التوحيدَ شِعار الحجّ ومقصدَه: لبّيك اللّهم لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنّعمة لك والملكَ، لا شريكَ لك، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:30، 31].
إنَّ الأصلَ الذي بنِيَ عليه هذا البيتُ العظيم هو توحيدُ ربِّ العالمين القائلِ في محكمِ التنزيل: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26].
التّوحيدُ ـ أيّها الموحِّدون ـ هو أساس الدين واللّبابُ، وهو للجنّة مِفتاح الباب، وعليه تدور رَحَا الإسلامِ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من لقِيَ الله لا يشرِك به شيئًا دخل الجنّةَ، ومن لقِيَه يشرك به دخَل النار)) رواه مسلم، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعدُ الناس بشفاعتِك يومَ القيامةِ؟ قال: ((من قال: لا إلهَ إلاّ الله خالصًا من قلبه)) رواه البخاري، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إني اختَبَأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلةٌ من مات من أمّتي لا يشرِك بالله شيئًا)) متّفق عليه. بل إنَّ التوحيدَ سبَب لمغفرةِ الذنوب، ففي سنن الترمذيّ أنّ النبيَّ قال: ((قال الله تعالى: يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقِيتني لا تشرِك بي شيئا لأتَيتُك بقرابها مغفرةً))، وفي صحيح مسلم عن عثمانَ بنِ عفان رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((من ماتَ وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله دخل الجنة))، وهو دليل على أنَّ العلمَ مَرتبة زائدةٌ على القول تقتَضي العملَ.
إذا علمتم فضلَ التوحيد ـ رعاكم الله ـ فإنَّ خطرَ الشرك عظيم، فهو محبِطٌ للعمل مدخِل للنار، وفي التنزيل العزيز: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72]، وقال الحقُّ سبحانه مخاطبًا أشرفَ خلقِه : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
أيّها المسلمون، إنَّ المتأمِّلَ في آياتِ القرآن الكريمِ وفي سنّة سيِّد المرسَلين يرَى الحساسيّةَ الشديدة في طريقة التعامل معَ هذه القضية والحسمَ الصريح والسّدّ الكامل لكلّ منافِذ الشرك وذرائِعه مهما كانت صغيرةً، فلا تهاونَ ولا تفريطَ ولا رخصَة ولا استثناءات إلا من أكرِهَ لسانه وقلبُه مطمئنّ بالإيمان.
وإنَّ أمرًا هذا شأنُه وخطرُه حرِيٌّ بالمسلم الاهتمامُ به وصرفُ حياته له وتفقّد نفسِه فيه وعدم الاكتفاء بما تعوّد عليه ورأى الناسَ فيه من غير علمٍ بالصّواب، وأن لا يكونَ كمن قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]. إنَّ الشركَ إذا دخَل العبادةَ أفسدها كالحدَث إذا دخل الطهارةَ.
ولقد قاتل النبيُّ المشركين، وكفّرهم الله، وحكم بخلودِهم في النّار، مع أنهم يحجُّون ويعظِّمون البيتَ ويدعون الله ويعترِفون بأنه سبحانه هو الخالق الرّازق، لكنّهم صرَفوا أنواعًا من العبادةِ لغير الله، وأشركوا معه غيره، وقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
ومِن هنا وجَب على المسلمِ أن يزِنَ أعمالَه وعباداتِه بميزان الكتاب والسنة، وأن يخلِصَ لله في قصدِه وتوجّهه، وأن يوحِّدَ الله في دعائه وطلبِه وذَبحه ونذره وخوفِه ورجائه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
جعل الله حجَّكم مبرورًا وسعيكم مشكورا وعملكم صالحًا مقبولاً، والحمد لله أوّلا وآخرا.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
|