عباد الله، أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء)).
عباد الله، يقول الإمام أبو علي الأنطاكي رحمه الله: ما كنت أظنّ أني أدرك زمانا يعود الإسلام فيه غريبا، فقيل له: وهل عاد الإسلام غريبا؟! قال: نعم، إن ترغب فيه إلى عالم تجده مفتونا بالدنيا، يحب الرياسة والتعظيم، ويأكل الدنيا بعلمه، ويقول: أنا أولى بها من غيري، وإن ترغب فيه إلى عابد معتزل في جبل تجده مفتونا جاهلا في عبادته مخدوعا بنفسه، وبإبليس، وقد صعد إلى أعلى درجات العبادة وهو جاهل بأدناها، فكيف بأعلاها؟! فقد صارت العلماء والعباد سباعا ضارية وذئابا مختلسة، فهذا وصف أهل الزمان من أهل العلم والقرآن ودعاة الحكمة، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
عباد الله، هذا وصف أهل زمانه، فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر بخياله؟! أما والله، لئن عاش إلى زماننا ورأى المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه لخرّ مغشيّا عليه.
عباد الله، كيف سيكون حال هذا العبد الصالح لو عاش في وقتنا اليوم وشاهد الفساد والعصيان والطغيان؟! كيف سيكون حاله لو رأى شباب الإسلام يتسكعون هنا وهناك، تارة يشربون الخمر، وتارة يلعبون القمار، منغمسون في شهواتهم وملذاتهم، يرتكبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن؟! كيف سيكون حاله لو حضر إلى بلدنا وشاهد الشباب وهم لا يصلون ولا يعرفون من الإسلام شيئا؟! كيف لو رأى أحوال الناس في معاملاتهم، فهذا يتعامل بالربا، وذاك يغش ويحتكر، وأولئك يتاجرون بأداء مناسك الحج ويستغلون البسطاء من الناس؟!
عباد الله، هل وصل الحال بأمتنا أن تتاجر بفرائض الله؟! فلان منَ الناس دفع ألفا وخمسمائة دينار أردني ليحجّ حجا مميزا، مميّزا بماذا؟! مميزا بالغشّ والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل، ليس مميزا بتسهيل أداء هذه الفريضة الإلهية، وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن الإثم هنا يقع على الذي قام بعملية الاستغلال، وليس على من يؤدّي فريضة الحج، فكفانا ـ أيها المؤمنون ـ فسادا في الأرض، كيف يستجيب الله لنا وفينا من يسعى في الأرض فسادا، ومنا من لا يخرج زكاة أمواله، ومنا من يأكل حقوق أخواته من الميراث، ومن يقوم بعمليات التزوير ويبيع الأراضي والأملاك التي لا يملكها زورا وبهتانا؟!
عباد الله، أين المصلحون من أبناء شعبنا المسلم؟! أين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟! أين العلماء المخلصون العاملون؟! هل تحقق فينا قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]؟!
عباد الله، هل امتثلنا لقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]؟! ألم تعلموا ـ يا عباد الله ـ أن قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا، وأن أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء؟! لماذا أصبح قتل النفس المؤمنة لأبسط الأسباب؟! فلان تشاجر مع فلان فقتله، وفلان نظر إلى فلان نظرة غير مرضية فاعتدى الآخر عليه فقتله، ما هذا يا عباد الله؟! ألهذا الحدّ هانت عليكم نفوس المؤمنين؟!
فاتقوا الله يا عباد الله، وراجعوا أنفسكم قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدَّق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون.
عباد الله، نحن في عصر كثرت فيه الفتن التي تذر الحليم حيران، علاقاتنا الأسرية ضعيفة، لا بل أصبحت ميتة، وما ذاك إلا لضعف إيماننا بالله تعالى. الأسرة المسلمة يجب أن تكون قوية بإيمانها وقرآنها، متمسكة بقيمها وعقيدتها. لماذا تخلى الإنسان عن أبَويه وبخاصة في حالة الكبر والشيخوخة وربنا تبارك وتعالى وصّى بهما في كتابه فقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]؟!
عباد الله، نريد في الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم الشباب اليافع العامل والفتاة المحجبة والأم الشجاعة الصبورة، نريد الشيخ الفاني الذي لا يزال قلبه شابا.
عباد الله، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر وقال: لقد بلغ من مرض أمّي وعجزها أنني أصنع لها ما كانت تصنع لي في صغري، أنا الذي أطعمها وأسقيها وأحملها إذا أرادت أن تقضي حاجتها من بول أو غائط، فهل وفّيتها حقها؟ فقال عمر: لا، إنها كانت تفعل ذلك لك وتتمنّى لك عمرًا مديدا، أما أنت فتفعل ذلك لها وتنتظر موتَها غدا أو بعد غد.
عباد الله، بعض الناس يذهبون بآبائهم وأمهاتهم إلى مأوى العجَزَة، ولا يسألون عنهم، حتى الزيارة لا يعرفون موعدها، ومنهم من يتوفى وأقرباؤه لا يدرون، امرأة توفيت قبل فترة في بيت المسنين وحملت إلى المسجد الأقصى ليصلّى عليها ولم يتواجَد أحد من أهلها، وقد رأيت ذلك بنفسي، ما هذا الذي يحصل يا عباد الله؟! أين بر الوالدين؟! أين المشاعر والعواطف والفضائل؟! أين الأسرة المسلمة المتماسكة؟! لا ينبغي ـ أيها المسلمون ـ أن نتخلّى عن عقيدتنا وعن مكارمنا وفضائلنا، فإن فعلنا ذلك فسوف يتخلى الله عنا، وتذكروا أنّ بر الوالدين سَلَف، اعمل ما شئت كما تدين تُدان، أنت اليوم شابّ وغدا تصبح عجوزا، ما صنعته بآبائك سيصنعه بك أبناؤك، فاعمل لغدك، واعمل قبل كلّ شيء لإرضاء الله تبارك وتعالى، وأوفّ الحق الذي عليك يوفِّ أبناؤك بالحقّ الذي لك.
عباد الله، إن سألتم: كيف السبيل إلى الخلاص؟ فالجواب واضح ويحتاج إلى ناصح، فأعداء الإنسان ثلاثة: دنياه وشيطانه ونفسه، فاحترسوا من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات، فطوبى لمن ترك شهوةً حاضرة لموعد غائب لم يره، فالحق ثقيل، والباطل خفيف، ورُبّ شهوة ساعة تورث حزنا طويلا، ومن استولت عليه النفس صار أسيرا في حبّ الشهوات محصورا في سجن هواه. يروى أنّ امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام بعدما ملك خزائن الأرض: يا يوسف، إنّ الحرص والشهوة صيَّرت الملوكَ عبيدا، وإن الصبرَ والتقى صيَّر العبيد ملوكًا، قال لها يوسف: إنه من يتَّقِ ويصبر فإن الله لا يضيق أجر المحسنين.
عباد الله، يقول الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (الغيّ نهر في جهنم في النار، يعذب فيه الذين يتّبعون الشهوات، وهو خبيث الطعم بعيد القعر)، وقال المفسرون في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3] قيل: نزع منها حبّ الشهوات، وقال عز وجل: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12] قال المفسرون: صبروا عن الشهوات.
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ قول رسول الله : ((حفَّت الجنة بالمكاره، وحفَّت النار بالشهوات)).
عباد الله، إنكم لا تدركون ما تطلبون إلا بترك ما تشتَهون، ولا تنالون ما تحبّون إلا بالصبر على ما تكرهون، فطوبى لمن كان بصره في قلبه ولم يكن قلبه في بصره. روي أن إبليس لعنه الله ظهر لنبي الله يحيى بن زكريّا عليهما السلام وعليه معاليق، فقال: ما هذه؟ قال: الشهوات التي أصطاد بها بني آدم، قال: هل تجد لي منها شيئا؟ قال: لا غير أنك شبِعت ليلةً فثقلت عن الصلاة والذكر، قال نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام: لا جرم لا أشبع، فقال إبليس: لا جرم لا نصحتُ أحدا أبدًا.
فصاحب الحسنات ـ يا عباد الله ـ سعيد مقرّب، وصاحب السيئات شقيّ معذّب، وذو الشهوات متعوب محاسَب، فشهوات النفوس نيرانها، ولذّات الدنيا حَطَبها، والجوع ماؤها الذي يطفِئها، وصدق من قال:
ومـن البلاء وللبلاء علامـة أن لا يرى لك عن هواك نزوع
والعبد عبد النفس في شهواتِها والْحـر يشبـع مرة ويَجـوع
نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيّئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يجعلنا من عباده الأبرار الأوفياء، إنه سميع مجيب.
|