.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

الاستعداد للاختبار

4632

الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

الأبناء, التربية والتزكية, الموت والحشر

عبد الله بن محمد البصري

القويعية

جامع الرويضة الجنوبي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- سرعة انقضاء العام الدراسي. 2- حرص الوالدين على نجاح أولادهم الدنيوي فقط. 3- التذكير باختبار اليوم الآخر وخطره. 4- نتيجة اختبار اليوم الآخر. 5- وجوب العناية بأوقات فراغ الأولاد زمن الاختبارات. 6- التحذير من الغش في الاختبارات.

الخطبة الأولى

أما بعدُ: فأُوصِيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسِي بتقوى اللهِ عز وجل، فتزوّدوا بها فإنها خيرُ الزَّادِ، واستعدُّوا بالأعمالِ الصالحةِ ليومِ المَعَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39، 40].

أيُّها المُسلمونَ، وقَبلَ أَشهُرٍ مَعدودةٍ بَدَأَ العامُ الدِّراسيُّ لِطُلابِ المَدَارسِ والجامعاتِ، وفي أَوَّلِ يومٍ منهُ نَظَرَ كثيرٌ مِنَ الطلابِ إلى ما أمامَهم من أيامٍ، فَرَأَوا أنها طَوِيلةٌ مُمتدّةٌ، وأنَّ بإمكانِهم أنْ يَلهُوا في أولِها ويَلعبوا، ثم يَعكُفُوا على كُتُبِهِم وَدَفَاتِرهِم في آخِرِها عُكُوفَ الجَادِّينَ، فَيَلتهِموُا ما فِيها من قَوَاعدَ وَمَعلُوماتٍ، وَيَشرَبوُا مَا تَحوِيهِ مِن مَسَائِلَ وَتَفرِيعَاتٍ، وَمَا زَالوا على الإِهمالِ مُقِيمِينَ، يَأكُلُ التَّسويفُ أَوقَاتَهُم سَاعةً بَعدَ سَاعةٍ، وَيَلَتهِمُ التَّأجِيلُ فُرَصَهُم يَومًا بَعدَ يَومٍ، حَتى اقتربَ مَوعدُ الاختِبارِ وَحَانت سَاعةُ الصِّفرِ، فإذا بِهِم يَجِدُونَ نَتِيجَةَ تَفرِيطِهِم وإِضاعتِهِم الأوقاتَ، يَجِدُونهََا نَدَمًا وَأَلمًا وَحَسَرَاتٍ، فَاستبدَلَ كَثيرٌ مِنهُم بِفرْحةِ اللَّعِبِ طُوالَ العَامِ تَرْحَةَ َاَلمُذَاكَرَةِ، وَبِجَلَسَاتِ الأحبَابِ العُكُوفَ على الكِتَابِ، بَل كَم مِن أبٍ وأمٍّ لم يَستَريحا في مَنَامٍ ولم يَهنَئَا بِطَعَامٍ تَضَامُنًا مَعَ أَبنائِهِم وبَنَاتِهِم، وَخَوفًا على مُستقبلِهِم مِنَ الضَّيَاعِ.

وَهَذا الشُّعورُ بِرَهْبةِ الامتحانِ مِن قِبَلِ الأبناءِ وَذَاكَ الخَوفُ مِن قِبَلِ الآباءِ والأولياءِ إنما هُوَ شُعُورٌ طَبيعِيٌّ وَخَوفٌ جِبِلِّيٌّ، لا غُبارَ عَلَيهِما ولا عَيبَ فَيهِما، وَلَكِنَّ المُصِيَبةَ العُظْمَى وَقَاصِمَةَ الظَّهرِ الكُبرَى أنْ تَرَى هذا الشُّعورَ أَوفرَ مَا يَكونُ عِندَ أُمُورِ الدّنيا وَاختِبَارِها اليَسِيرِ الذي أعظمُ ما يَحصلُ لِلطالبِ مِن جَرَّائِهِ أنْ يخُفِقَ فِيهِ أو يُحرَمَ مِنه، فإذا جاء أمرٌ مِمَّا يَخُصُّ الآخِرةَ واختبارَهَا الحقيقيَّ رأيتَ الأبوينِ أَبرَدَ ما يَكونانِ شُعُورًا، وَوَجدتَ الأبناءَ أَقَلَّ ما يُلْفَونَ اهتِمَامًا. كم مِن أَبٍ وَأمٍّ حَرِصا عَلَى إيقاظِ أبنائِهِم عِندَ أَذَانِ الفَجرِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ بل في أيامِ الدِّراسةِ، وَبَذَلُوا كُلَّ ما في وُسعِهِم لِتَنبِيهِهِم وَتَنشِيطِهِم، لِئَلا يفوتَهُم مَوعدُ الدِّراسةِ أوِ الامتحانِ فيُخفِقُوا، وَكم قد ذَكَّرُوهُم بِفُلانٍ وعَلانٍ مِمَّن نَجَحُوا في دِرَاسَتِهِم وَتعلِيمِهِم وَهُمُ الآنَ يتقلَّدونَ أغلى المناصبِ وَيَتَرَبَّعُونَ على أعلى المَرَاتِبِ؛ لعلَّهُم يَقتدونَ بِهِم ويَصنعُونَ مِثلَ ما صَنَعُوا، وَلَكِنَّ هَذينِ الوَالِدينِ لم يَهتَمَّا في يَومٍ مَا بِإِيقَاظِ الأبنَاءِ لِصَلاةِ الفَجرِ أو صَلاةِ العَصرِ، مَعَ عِلمِهِمَا بِأَهَمِّيَّةِ الصلاةِ وَخَطَرِ تَركِها، وَلَم يَربِطاهُم في دِينِهِم بِالقُدُوَاتِ الحَقِيقِيينَ مِن سَلَفِهِمُ الصَّالِحِ وَعُلَمَاءِ الأمَّةِ الرَّبَانِيينَ.

إنَّ مِنَ الشَّقَاءِ الوَاضِحِ وَالخَسَارَةِ الفَادِحَةِ ـ أيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أنَّ يَظَلَّ اهتِمامُ الإِنْسانِ مُنصَبًّا على هذهِ الدُّنيا وَزَخَارِفِها، وَأَن لا يَظْهَرَ حِرصُهُ إلا عليها وَمِن أَجلِها، لا يُسعِدُهُ إلا نَجَاحُهُ في اختِبارِها، وَلا يُحزِنُهُ إلا إِخفَاقُهُ في جَمعِ حُطامِها، ثم لا يُهِمُّهُ بَعدَ ذَلكَ أَمرُ الآخِرَةِ ولا أَينَ مُوقِعُهُ مِنها، مَعَ عِلمِهِ أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَصيرَ إليها يَومًا ما، وَأَنَّها هِيَ المَقَرُّ وَفِيها البَقَاءُ، إِنْ في سَعَادَةٍ وَإِنْ في شَقَاءٍ.

إنَّ كُلَّ مُوَفَقٍ مِنَ العِبَادِ ـ أيُّها الإخوَةُ ـ لا يَمُرُّ بِهِ مُوقِفٌ حتى وَإنْ كان دُنيويًا بَحْتًا إلا تَذَكَّرَ بِهِ الآخِرةَ وَيَومَ الحِسَابِ. وَنحنُ مُقبِلونَ على امتحِانَاتِ الطُّلابِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأيامَ العَصِيبَةَ على أبنَائِنا بل وَعَلى كَثيرٍ مِنَ الآباءِ لا بُدَّ أنْ نَتَذَكَّرَ بهَا يَومَ السُّؤَالِ والحِسَابِ وما أَعَدَّ اللهُ فَيهِ مِنَ الثَّوَابِ والعِقَابِ، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:103-108].

إِنَّهُ كَمَا أنَّ الطُّلابَ يُسْأَلُونَ في الامتِحَانِ وَلَن يَنجَحَ مِنهُم إلا مَن كَانَ مُجِدًّا مجتَهِدًا وَلَن يُفلِحَ مِنهُم وَيَنَالَ الدَّرَجَاتِ العَالِيةَ إلا مَنِ اغتَنَمَ عَامَهُ مِن أَوَّلِه، فَيَجِبُ أَنْ نَعلَمَ أنَّ كُلَّ عَبدٍ سَيُسْأَلُ يَومَ القِيامَةِ عَمَّا سَلَفَ مِنهُ وَكَان، وَلَن يَنجَحَ إلا أَهلُ التَّقوَى وَالإيمَانِ الذين يَغتَنِمُونَ الأعمَارَ ويُبادِرُونَ الأوقَاتَ في التَّزَوُّدِ مِنَ البَاقِياتِ الصَّالِحَاتِ وَاكتِسَابِ الحَسَنَاتِ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]. فَكُلٌّ سَيُسْأَلُ لا مَحَالَةَ، دَاعِيًا كانَ أو مَدعُوًّا، رَسُولاً أو مُرسَلاً إليه، وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:6-9].

أيُّهَا المُسلِمُونَ، إنهُ وَإِنْ حَرِصَ أَهلُ الدُّنيا على إِخفَاءِ أَسئِلَةِ الاختِبَارِ عَنِ الطُّلابِ إلا أنَّ اللهَ مِن رَحمتِهِ وَلُطفِهِ بِعبادِهِ جَعَلَ أَسئِلَةَ الاختِبَارِ الأُخرَوِيِّ مَكشُوفَةً وَمَعلُومَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، فَقَد كَشَفَهَا مُعَلِّمُ البَشَرِيَّةِ الخيرَ بوحيٍ مِن ربِّهِ جل وعلا، وَنَصَحَ الأُمَّةَ بِتَوضِيحِها لهم، وَحَذَّرَهُم وَأَنذَرَهُم، فَقَالَ : ((لَن تَزُولَ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيامةِ حَتَّى يُسأَلَ عَن أَربعِ خِصَالٍ: عَن عُمُرِهِ: فِيمَ أَفنَاهُ؟ وَعَن شَبَابِهِ: فِيمَ أَبلاهُ؟ وَعَن مَالِهِ: مِن أَينَ اكتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنفَقَهُ؟ وَعَن عِلمِهِ: مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟)). ألا فَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، وَأَعِدُّوا لِلجَوَابِ صَوَابًا، احفظُوا الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطنَ وَمَا حَوَى، وَتَذَكَّرُوا المَوتَ والبِلَى، وَاترُكُوا زِينَةَ الحَيَاَةِ الدُّنيَا لِتَفُوزُوا بِالأُخرَى، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا خَيرَ في طُولِ العُمُرِ إلا مَعَ حُسنِ العَمَلِ، وَلا في زَهرَةِ الشَّبَابِ إلا بِالطَّاعَةِ، وَلا في كَثرةِ المَالِ إلا مَعَ حُسنِ الإنفَاقِ، وَلا في العِلمِ إلا بِالعَملِ وَالتَّطبِيقِ.

إنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ـ أيُّها الإِخوَةُ ـ قَد تَجَاوَزَتْ أَعمَارُهُمُ الأربَعينَ وَالخَمسينَ، وَمَعَ ذَلك مَا زَالُوا يَلعَبُونَ وَيَلهُونَ سَامِدِينَ، يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الجُمُعَةِ وَالجَمَاعَةِ، وَيُقَصِّرُونَ في العِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوقَاتُهُم تَضِيعُ في قِيلٍ وَقَالٍ، وَمَجَالِسُهُم غِيبةٌ وَنَمِيمَةٌ وَجِدَالٌ، أَضَاعُوا عَصرَ الفُتوَّةِ والشَّبَابِ وَمَا كَفَاهُم، فَيُرِيدُونَ أن يُلحِقُوا بِهِ عَصرَ الكُهُولةِ والشَّيخُوخَةِ، وَإِنَّ إِخوَانًا لهم مِن أَهلِ الغِنى والثَّرَاءِ مَا زَالُوا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بِلا خَوفٍ ولا تَوَرُّعٍ، يَحرِصُونَ عَلَى جَمعِ الأَموَالِ مِن كُلِّ وَجهٍ وَسَبِيلٍ، لا يَتَوَرَّعُونَ عَن غِشٍّ وَلا رِبا، ولا يَأبَهُونَ بِمَا أَخَذُوهُ بِالحِيَلِ وَشَهَادَاتِ الزُّورِ، وَلا بِمَا كَسَبُوهُ بِالأَيمَانِ الكَاذِبَةِ وَالخُصُومَاتِ الفَاجِرَةِ.

أمَّا مَعشرُ الشَّبَابِ ـ وَمَا أَدرَاكَ مَا حَالُهُم؟! ـ فَوَقتُهُم مُضَاعٌ وَفُرَصُهُم غَيرُ مُغتَنَمَةٍ، سَهَرٌ مُمْتَدٌ وَسَمَرٌ طَوِيلٌ في غَيرِ عِبادةٍ وَلا تَحصِيلٍ، نَومٌ عَنِ الصَّلاةِ وَتَثَاقُلٌ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَصَحوٌ في البَاطِلِ وَخِفَّةٌ إلى المَعَاَصِي، عَلِمُوا فَلَم يَعمَلُوا، وَقَالُوا: سَمِعنَا وَعَصَينا، وَأُشرِبُوا في قُلُوبِهِم حبَّ المُوبقِاَت والشَّهَوَاتِ، فَلَبِئسَ العِلمُ عِلمُهُم، إذْ لم يُورِثْهُمُ العَمَلَ وَخَشيَةَ العَلِيمِ سُبحَانَه.

أيُّهَا المُسلِمُونَ، إِذَا كَانَ هَذَا هُوَ حَالُ جُمهُورِ شَبَابِنَا وَشِيبنَِا فَأَينَ الإِعدَادُ لاختِبَارِ الآخِرةِ؟! وَكَيفَ سَتَكُونُ الإِجَابَةُ عَنِ الأَسئِلَةِ بَينَ يَدِي رَبِّ العَالَمِينَ؟! يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111]. لَيتَ شِعرِي، بِأيِّ جَوَابٍ سَيُقَابِلُ تَارِكُ صَلاةِ الفَجرِ والعَصرِ رَبَّهُ؟! أَتُرَاهُ سَيَقُولُ: كَانَ البَردُ في الفَجرِ شَديدًا وَالفِرَاشُ وَثِيرًا، وَكُنتُ في العَصرِ مُتعَبًا بَعدَ الدَّوَامِ وَجَمعِ الحُطَامِ؟! وَلا أَدرِي إلى أينَ يَفِرُّ مِن مَولاهُ مَن عَصَاهُ فَأَكَلَ الحَرَامَ وَشَرِبَ الحَرَامَ وَسَعَى إلى الحَرَامِ؟! مَا جَوَابُ مَن غَشَّ رَعِيَّتَهُ وَأَهلَ بَيتِهِ فَأَدخَلَ عَلَيهِمُ الدُّشُوشَ وَأَجهِزَةَ اللَّهوِ وَالبَاطِلِ؟! أَتُرَاهُ سَيَنجَحُ في اختِبَارِ الآخِرَة ِوَرَسُولُ اللهِ يَقُولُ: ((ما من عبدٍ يَسترعيهِ اللهُ عز وجل رعيةً، يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ رعيتَهُ إلا حرَّمَ اللهُ تعالى عليهِ الجنةَ)).

ألا فَليُحاسبْ كُلُّ امرئٍ نفسَهُ قبلَ أن يُحَاسَبَ، وَليَسأَلها قبلَ أن يُسأَلَ، فإنَّ مَن حَاسَبَ نفسَهُ هُنَا خَفَّ عليهِ الِحسابُ هُناكَ، وَمَن أهملَها اليومَ نَدِمَ يَومَ لا يَنفعُ النَّدَمُ، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52].

إخوةَ الإيمانِ، إنَّ اختبارَ الآخرةِ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ، جِدٌّ ليس بِاللَّعِبِ، إنه واللهِ اختبارٌ لا يَستوي فيهِ مَن تابَ وآمنَ وعَمِلَ صَالحًا ثم اهتدى بمن أغفل اللهُ قَلبَهُ عَن ذكرِهِ واتَّبعَ هَوَاه ُوكان أمرُهُ فُرُطًا، إنه اختبارٌ لا يُعادُ ولا يُكَرَّرُ، وَنَتيجَتُهُ لا تُرَاجَعُ ولا يُرجَعُ فيها، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41]. مَا نَتيجَتُهُ وَاللهِ إلا أن يُحِلَّ اللهُ رِضوَانَهُ عَلَى عبدِهِ فَلا يَسخَطُ عليه بعدَهُ أَبَدًا، أَو يَسخَطُ عليه فَلا يَرضَى بَعدَهُ أَبَدًا، ما ثَمَّ إلا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، جَنَّةٌ عَاليَةٌ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً، عَرْضُها السماواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمتقيَن، وَنَظَرٌ إلى وَجهِ رَبٍّ كَرِيمٍ، في عِيشةٍ رَاضيةٍ، في سِدرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرفُوعَةٍ، أَو نَارٌ مُوقدةٌ مؤصدةٌ حاميةٌ تلظَّى، أُعِدَّت للكافرينَ، لا يَصلاها إلا الأشقى الذي كذَّبَ وتوَلَّى، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:158].

فاتقوا اللهَ ـ يَا طُلابَ الآخرةِ ـ وأطيعوهُ، وراجِعوا كتابَ ربِّكُم والزمُوهُ، واقتدوا بمعلمِكُم الخيرَ واتَّبِعُوهُ، ولا يكنْ حالُكُم كحالِ المفرّطينَ الذين يلعبون ولا يَجِدُّونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:20-25].


 

الخطبة الثانية

أما بعدُ: فاتقوا اللهَ ـ أيها المسلمونَ ـ حقَّ التقوى، وتمسَّكُوا مِنَ الإسلامِ بِالعروةِ الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].

أيها المسلمون، إن أولادَنا أمانةٌ في أعناقِنا، وَسَنُسْأَلُ عنها فيما نُسألُ عنه ولا بُدَّ، قال : ((كلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيتِهِ)).

وإذا كان الأمرُ كذلكَ ـ أيها الإخوةُ ـ فَيَجِبُ أن لا يَكُونَ كُلُّ هَمِّنا أن يُحَصِّلَ أبناؤُنا دنيًا فانِيةً، أو يَحُوزُوا مَنَافِعَ زَائِلَةً، أو يتقلَّدُوا مَنَاصِبَ غَالِيةً ويرتقوا رُتَبًا عَالِيةً، ثم نتركَهم بعدَ ذلك بِلا تربيةٍ إسلاميةٍ وتوجيهٍ سديدٍ؛ لأنَّ هَذهِ الأُمُورَ الدُّنيَوِيَّةَ البَحتةَ سَتُصبِحُ وَلا شَكَّ وَبَالاً عَلَيهِم إذا لَم تُربَطْ بَشَرْعِ اللهِ وَالدَّارِ الآخِرةِ، فَلْيكنْ هَمُّنا إِصلاحَهُم عَقِيدةً وَقَولاً وَفِعْلاً وَسُلُوكًا، لِيَستَفِيدُوا مِن دِرَاسَتِهِم وَمِن جَمِيعِ أُمُورِ حَيَاتِهِم، وليستَغِلُّوهَا في الخَيرِ وَنَشرِ الإسلامِ والدَّعوَةِ إليهِ.

وَمَا دامَ الكَلامُ عَنِ الاختِبَارِ وَأَيَّامِهِ وَعَنِ التَّربِيَةِ وَأَهَمِّيَتِهَا، فَإِنَّ هُنَا أَمْرًا مُهِمًا جِدّ مُهِمٍّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالأبناءِ وَتَربيتِهِم، رَأَيتُ أنْ أُنَبِّهَ عَلَيهِ كُلَّ أَبٍ حَرِيصٍ غَيُورٍ يَعِي المَسؤوليةَ المُلقَاةَ عَلَى عَاتقِهِ وَيَشعُرُ بها، ذَلكم هُوَ أَنَّ أَيَّامَ الاختباراتِ والامتحاناتِ كَثيرًا مَا يَخرجُ الطَّالبُ فيها مِنَ المَدرَسَةِ مُبكِّرًا، وَهُنا مَكمَنُ الخَطَرِ وَمَنبَعُ الشَّرِّ، حَيثُ يَستَغِلُّ كَثيرٌ مِن عَبيدِ الشَّهَوَاتِ هَذا الوَقتَ الضَّائعَ الذي يَمتَدُّ إلى أَكثرَ مِن ثَلاثِ سَاعاتٍ أَحيَاَنًا، فَيَتَكَرَّمُون مَأْزُورِينَ غَيرَ مَأْجُورِينَ ويَجعَلُونَ مِن سَيَّارَاتِهِم مَأْوًى لِكَثِيرٍ مِنَ الأَيتامِ الضَّائِعِين الذينَ فَقَدُوا محَاَضِنَ التَّربيةِ السَّلِيمَةِ، وَبُلُوا بأمهاتٍ تَخَلَّينَ أَو آبَاءٍ مَشغُولِينَ، فَيَحصُلُ في هذا الإرْكَابِ مِنَ الشَّرِّ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ، مِنِ استماعِ غِنَاءٍ وَمَزَامِيرَ، وَإِيذَاءٍ لِعِبادِ اللهِ في أَسوَاقِهِم وَشَوَارعِهِم، وَمُهَاوَشَاتٍ وَمُنَاوَشَاتٍ، إلى لوَاطٍ وَهَتْكٍ لأعرَاضِ هؤلاءِ الأبناءِ المَخدُوعيَن مِن قِبَلِ تِلكَ السِّباعِ الضَّارِيةِ، بَلِ البَهَائِمِ العَارِيَةِ التي تَشَبَّعَت بما في الدُّشُوشِ مِن خَلاعةٍ وَمُجُونٍ، فَعَادَت لا تُفَكِّرُ إلا في كَيفيةِ قَضَاء ِالشَّهوَةِ والبَحثِ عَنها.

ألا فَاتقوا اللهَ أيُّهَا الآبَاءُ، واحفَظوا أَبنَاءَكُم مِنَ الضَّيَاعِ وَمِمَّا لا يَليقُ بِكُم ولا بِهِم، فَقَدْ ثَبَتَ بِتَتَبُّعِ كَثِيرٍ مِنَ المُعَلِّمِينَ المُهْتَمِّينَ بِالوَاقِعِ وَرِجَالِ الهَيئَةِ وَاستِقْرَائِهِم لِجَرَائمِ اللِّوَاطِ وَالمُضَارَبَاتِ وَاستِعْمَالِ المُخِدِّرَاتِ وَحَوَادِثِ السَّيَّارَاتِ التي تَقَعُ للطلابِ أَنَّ أَكثَرَها وُقُوعًا وَأَشنَعَها إنما يحَدُثُ في أَيَّامِ الاختِبَارَاتِ، حَيثُ طُولُ الفَرَاغِ وَانعِدَامُ الرَّقِيبِ وَتَسلِيمُ الآبَاءِ السَّيَّارَاتِ لأبنَائِهِم مِن غَيرِ اهتِمَامٍ وَلا مُتَابَعَةٍ.

أَلا فَرَحِمَ اللهُ أبًا اهتَمَّ بِأَبنَائِهِ وَتَابَعَهُم، وَأَخَذَ عَلَى أَيدِيهِم دَونَ كُلِّ شَرٍّ وَمَنَعَهُم، وَطُوبَى لِمَن كَفَى الناسَ شَرَّ أَبنَائِهِ وَأَذَاهُم، ذَاكَ وَاللهِ هُوَ المُسلِمُ حَقًّا، قَالَ : ((المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللهُ عَنْه)). وَيَا لخسَارَةِ مَن ضَيَّعَ أَبنَاءَهُ وَأَهمَلَهُم، وَتَرَكَ لهم الحَبلَ عَلَى الغَارِبِ، وَشَجَّعَهُم لِيُؤذُوا عِبَادَ اللهِ بِغَيرِ ما اكتسبوا، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].

وَقَضِيَّةٌ أَخِيرةٌ نُنَبِّهُ إِلَيهَا أَبنَاءَنَا الطلابَ وَإِخوَانَنَا المُعِلِّمِينَ، ألا وَهِيَ الغِشُّ في الامتحَاناتِ، أوِ الدُّخُولُ في سَرَادِيبَ مُلتَوِيَةٍ لِتَحصِيلِ أَورَاقِ الأَسئِلَةِ أَو جُزءٍ مِنها مِن بَعضِ المَصَادرِ، فَإِنَّ ذَلكَ مِن أَعظَمِ الغِشِّ لِلنَّفسِ وَلِلأُمَّةِ، حَيثُ يَنجَحُ بِهَذِهِ الطُّرُقِ مَن لا يَستَحِقُّ النَّجَاحَ، وَيَتَقَلَّدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ المُزَوَّرَةِ مَنَاصِبَ لا يَستَحِقُّهَا، وَيَأكُلُ بها أَموَالاً لا تَحِلُّ لهُ، فَالحَذرَ الحَذرَ مِن ذَلِكَ، وَليَتَذَكَّرْ كُلُّ مَن دَعَتهُ نَفسُهُ إلى الغِشِّ أوِ المُرَاوَغَةِ قَولَهُ : ((مَن غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا)). وَلْيَعلَمْ أنَّ هَذا الحَدِيثَ مُنطَبِقٌ عَلَى الغِشِّ في الامتِحَانَاتِ وَفي كُلِّ المَوَادِّ بِلا استثناءٍ، كَمَا قَرَّرَ ذَلك الرَّاسِخُونَ في العِلمِ مِن عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللهُ.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً