الحمد لله أهل الحمد والشكر والإحسان والبر، أحمده سبحانه فضَّل شهر رمضان وخص أيام العشر، وعظم فيها ليلة القدر، وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، نعمه تجل عن الحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أكرم رسول نزل عليه أشرف ذكر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا للعشر الأواخر من رمضان قدرها، ولكم في نبيكم وقدوتكم أسوة حسنة، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه شديد التحري لهذه الليلة وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد كان يتفرغ لها تفرغًا تامًا؛ حيث كان يعتزل أهله وبيته ويعتكف في المسجد، وقد اعتكف مرة من شدة تحريه شهر رمضان كاملا، فقد أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: اعتكف رسول الله العشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي خطيبا صبيحة عشرين من رمضان، فقال: ((من كان اعتكف مع النبي فليرجع؛ فإني أريت ليلة القدر وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء))، وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئًا، فجاءت قزعة فأمطرنا، فصلى بنا النبي حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله وأرنبته تصديق رؤياه. وها هي زوجه الحبيبة أمنا أم المؤمنين تحكي لنا حاله بقولها: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. فأقبلوا على ربكم، وأحيوا ليلكم، وأيقظوا أهلكم؛ تأسّيا بسنة نبيكم. وقدِّموا لأنفسكم، وجِدُّوا وتضرعوا، تقول عائشة أمُ المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال قولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
نعم أيها الأخوة، الدعاءَ الدعاءَ، عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء؛ فقد قال ربكم عز شأنه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. أتعلمون من هؤلاء العباد؟! إن الخلائق كُلَّهم عبادُ الله، و لكنَّ هؤلاء عبادٌ مخصوصون، إنهم عُبّاد الدعاء، عُبادُ الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون مع عظم رجاءٍ وفي رغبة وإلحاح، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ.
إنَّ للدعاءِ ـ أيها الإخوةُ ـ شأنًا عجيبًا و أثرًا عظيمًا في حسن العاقبة وصلاحِ الحال و المآل والتوفيقِ في الأعمال والبركةِ في الأرزاق. أرأيتم هذا الموفق الذي يلجأ إلى الله في كل حالاته ويفزعُ إليه في جميع حاجاته؟! يدعو ويُدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفانِ وأبناؤه البررةُ والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخُلُق، وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسن تدعو له وتحوطه، ملحوظٌ من الله بالعناية والتسديد وإصلاح الشأن مع التوفيق. أين هذا من محرومٍ مخذولٍ لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه ويستكبر عن دعاء مولاه، محرومٌ سدَّ على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة، إن نزعَ حلاوةِ المناجاةِ من القلب أشدُّ ألوان العقوبات والحرمان، ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟!
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجون إلى ربهم بالدعاء يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابًا واحدًا هو بابُ السماء، باب مفتوح لا يغلق أبدًا، فتحه من لا يرد داعيًا ولا يُخيِّب راجيًا، فهو غياثُ المستغيثين وناصر المستنصرين ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون، يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة: العشرُ الأخيرة، جوفُ الليل من رمضان، والأسحارُ من رمضان، دبُرُ الأذان والمكتوبات، أحوالُ السجود، وتلاوةُ القرآن، مجامعُ المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه، فأين المتنافسون في هذه العبادة العظيمة؟! ألظّوا بالدعاء رحمكم الله، لا تسأموا ولا تعجزوا، ولا تستبطئوا الإجابة، فيعقوب عليه السلام فقد ولده الأولَ ثم فقد الثاني في مددٍ متطاولة، مازاده ذلك بربه إلا تعلقًا: عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:83]، ونبي الله زكريا عليه السلام كبرت سنة واشتعل بالشيب رأسه، ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققًا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا [مريم:4]. لا تستبطىء الإجابة يا عبد الله؛ فربك يحب تضرعَك و يحب صبرَك ويحب رضاك بأقداره، رضًا بلا قنوط، وقد قال : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)) متفق عليه.
أيها المسلمون، أيامكم هذه من أعظم الأيام فضلاً وأكثرِها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار، وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته. المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرِم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتت عليه فُرص الشهر وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبونٌ من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرفْ عينُه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة.
أيها المسلمون، لقد شرع الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك أعمالاً تفعلونها، من ذلك إخراج زكاة الفطر، وتسمى صدقة الفطر، ويقال للمخرَج: فطرة، وهي المقصودة في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ [الأعلى:14]. وقد أضيفت إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان، وهي صدقة عن البدن والنفس.
زكاة الفطر يخرجها المسلم قبل صلاة العيد شكرًا لله تعالى على نعمة التوفيق لصيام رمضان وقيامه، يختم بها المسلم عمل رمضان.
زكاة الفطر يخرجها المسلم من غالب قوت البلد، والأصل فيها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من شعير، على كل حر وعبد ذكر أو أنثى، على الصغير والكبير. ويستحب إخراجها عن الجنين فقد كان السلف رضي الله عنهم يخرجونها عنه. ويجب أن يخرجها عن نفسه وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأَولى أن يخرجوها عن أنفسهم لأنهم المخاطبون بها أصلاً.
أما عن وقتها فإن زكاة الفطر تجب بغروب الشمس ليلة العيد؛ لأنه الوقت الذي يكون به الفطر من رمضان، وزمن دفعها له وقتان: وقت فضيلة ووقت جواز، فأما وقت الفضيلة فهو صباح العيد قبل الصلاة، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة. رواه البخاري ومسلم. وأما وقت الجواز فهو قبل العيد بيوم أو يومين لما ثبت عن نافع قال: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إنه كان يعطي عن بنيّ، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرها فهي صدقة من الصدقات.
والواجب في زكاة الفطر صاع من غالب قوت أهل البلد من بر أو شعير أو أرز أو تمر أو زبيب أو أقط، وكلما كان أجود فهو خير وأفضل. فعلى كل مسلم ذكر أو أنثى صغير أو كبير حر أو عبد أن يخرج صاعًا من طعام بصاع النبي أو ما يعادله كيلاً أو وزنًا، ولا يجزئ أقل من ذلك، والصاع بمقاييسنا الحالية يساوي بالوزن المتعارَف اثنين من الكيلو ومائتين غرامًا بالاحتياط.
أيها المسلمون، وزكاة الفطر تدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج، سواء كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين، وإذا كان الشخص لا يعرف فقراء البلد فيسلمها للجمعية الخيرية ويقومون بتوزيعها نيابة عنه.
ولا يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا، وقد شرع هو صلوات الله وسلامه عليه زكاة الفطر بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة: صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط، روى هذا الحديث البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر، وبناء عليه فلا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، وإنما يجب أن تكون من غالب قوت أهل البلد، يقول العلماء: "إن إخراج القيمة لا يجزئ لأنه مخالف لأمر النبي ، ولأنه مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يخرجونها صاعًا من طعام". ثم إن هذا ما عليه الفتوى من علماء هذه البلاد، فمخالفة رأي العلماء أيضا أمر صعب؛ فإنا لم نصل إلى ما وصلوا إليه من العلم الشرعي حتى نخالفهم.
تقبل الله منّا ومنكم صالحَ الأعمال، وجعلنا وإيّاكم وإخوانَنا المسلمين مِن عتقائه من النّار، إنّه سميع مجيب.
هذا واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم كثرة صلاتكم وسلامكم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
|