عباد الله، إن من تدبّر أحوال المسلمين في أيام مضَت وأحوالهم في هذه الأيام ليرى الفرق الشاسع والبونَ العظيم بين الحالين، لقد كان المسلمون في الماضي أعزة منتصرين، فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، لم يستعص عليهم بلد، ولم يقف أمامهم جيش، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، ومع هذا كله فإنهم لم يتركوا بلدًا إلا فتحوها، كانوا يخرجون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم لنصرة هذا الدين.
هذا ربعي بن عامر رضي الله عنه يقف أمام ملك الفرس بكل عزة وفخر يقول: (أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن ظلم الأديان إلى عدالة الإسلام). وهذا عقبة بن نافع رضي الله عنه يقف على أطراف المحيط الأطلسي بعد أن فتح بلاد المغرب ويقول: (والله، لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضًا لخضته غازيًا في سبيل الله).
ولا تزال صور العزة والكرامة في تاريخ هذه الأمة تتجدّد صورة بعد صورة وعصرًا بعد عصر، فهذا المعتصم رحمه الله تستنجد به امرأة مسلمة آذاها أحد النصارى في عمّورية، فما كان منه إلا أن قال وبكل عزة وشهامة: "والله، لا يمسّ شعر رأسي غسل من جنابة حتى أفتح عمّورية"، فجهز جيشه وفتح عمورية، وجعل ذلك الرجل الذي آذى المرأة عبدًا عندها.
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
وهذا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يستنجد به الأقصى بعد أن لوّثه النصارى، فيجهز جيشه، ومنع الضحك في جنوده، وسار إلى الأقصى بكل عزة وشجاعة، فطهره من أنجاس النصارى، ورده إلى بلاد المسلمين.
هكذا كان المسلمون في الماضي، أعزة منتصرين، لا يعتدي على كرامتهم أحد كائنا من كان، فكيف نالوا هذه العزّة وتلك الكرامة؟! والله، ما نالوا تلك العزة والكرامة إلا لأنهم تمسكوا بدين الله، وأعزوه في أنفسهم، وقدموه على كل شيء، فأعزهم الله ونصرهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. لقد كانوا يتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله، ويتسابقون إلى بذل المال في سبيل الله، كانوا يتسابقون إلى المساجد وحلقات العلم والإيمان، فأعزهم الله ونصرهم وسخّر لهم جنود السماوات والأرض بقدرته.
عباد الله، وفي هذه الأيام تبدلت أحوال المسلمين، فتبدلوا بعد العزّ ذلاً، وبعد الكرامة مهانة، وبعد النصر هزيمة، يقتلون ويشرَّدون، يعتدَى على ديارهم وتسبَى نساؤهم. هذه الأندلس صارت ديارًا للنصارى بعد أن كانت إحدى بلاد المسلمين، وهذه القدس أولى القِبلتين وثالث المسجدين ومعراج النبي ، الأرض التي بارك الله حولها، التي هي منبع الرسالات وأرض النبوات، هذه اليوم في أيدي اليهود، يقتلون فيها المسلمين، ويخربون ديارهم، ويشردون أطفالهم، والمسلمون يتفرجون أذلة صاغرين كأنهم لا حول لهم و لا قوة. وصار حال المسلمين في كثير من بقاع الأرض شرّ حال.
أحلّ الكفـر بالإسلام ضيمًا يطول به على الدين النحيب
فحقّ ضـائع وحمـى مباح وسيف قـاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليبًا ومسلمة لها حـرم سليـب
وكم من مسجد جعلوه ديرًا على محرابه نصب الصليـب
دم الْخنزير فيه لهم خَلـوق وتحريق الْمصاحف فيه طيب
أمـور لـو تأملهـن طفل لطفل فِي عوارضه المشيب
أتـسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذًا يطيب
أمـا لله والإسـلام حـقّ يدافع عنه شبـان وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبـوا
نعم، هكذا تسلط الكفار على المسلمين في هذه الأيام، لكن السؤال الذي يجب أن يطرح: لماذا صار المسلمون إلى هذه الحال من الذلة والصغار بعد تلك العزة والكرامة التي كانوا عليها؟! والله، ما صاروا إلى هذه الحال إلا لأنهم ضيعوا أمر الله فضيعهم، وطلبوا العزة من غيره فأذلهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله). ووالله، لو تمسك المسلمون بدينهم حق التمسك لما صاروا إلى هذه الحال، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
نعم إخوة الإسلام، لما ضيعنا أمر ربنا وأهملناه وأشغلتنا الدنيا عن الانتصار له والدفاع عنه صرنا إلى هذه الحال، لما استبدل شبابنا المساجد بالملاعب والشوارع أصابتنا الذلة والمهانة، لما استبدلنا أشرطة القرآن وحلقات الذكر بالأغاني والجلوس أمام الشاشات والمباريات صرنا إلى هذه الحال، لما استبدلنا الصدقة والجهاد بالزرع وأكل الربا صرنا إلى هذه الحال، وهذا مصداق قول النبي : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم))، وقول النبي : ((توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها))، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ؟! قال: ((لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ويسلط عليكم الوهن))، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهة الموت)).
نعم والله، هذه حال الأمة اليوم؛ غثاء متشتتين، أحبوا الدنيا وأبغضوا الجهاد في سبيل الله، فاجتمعت الأمم على قتالهم، فوالله لا عزّ لنا ولا نصر إلا بهذا الدين، فإذا تمسكنا به حق التمسك وأقمناه في أنفسنا وفي بيوتنا وبين أبنائنا وبناتنا فوالله سننتصر على أمم الأرض كلها، وقد تكفل الله لنا بذلك، فقال جلّ وعلا: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
ولنا في سلفنا الصالح القدوة الحسنة والسيرة الغراء، فمع قلة عددهم وكثرة أعدائهم فقد نصرهم الله، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنهم أعزوا هذا الدين، وضحَّوا بكل شيء في سبيله، فنصرهم الله وأعزهم.
يـا أمـة الإسلام لـن تتسنمـي رتب العلا بالْمال والأحساب
لن تسلكـي درب الخلاص بمدفع وبكثرة الأعوان والأصحاب
لـن تبلغـي إلا بنهـج صـادق وتعلّـق بالخالـق الوهـاب
تفنى الجيـوش وتنتهـي آثـارها وننـال بالإيمـان عز جناب
تفنَى القوى مهمـا تكـاثر عدها وتظـل قـوة ربنـا الغلاب
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|