إخواني في الله، فقد اختار الله تعالى محمد بن عبد الله ليكون نبيا ورسولا، وللعالمين بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه قوله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1، 2]، يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية: "وقام حينئذ رسول الله في الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم"، ودعا إلى الله القريب والبعيد والأحرار والعبيد، فآمن به حينئذ كلُّ لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كلُّ جبار عنيد، وظل طيلة ثلاث وعشرين سنة يدعو إلى الله تعالى، وأخيرا يبشره ربه عز وجل باقتراب أجله فيقول له: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]، ويقول: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَـالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:34، 35]، وقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ [آل عمران:144].
وبعد مسيرة الدعوة الطويلة التي لاقى خلالها المتاعب والمشقات والأذى والابتلاء شاء الله تعالى أن يجمع المسلمين لرسوله وبين يديه في أعظم اجتماع عرفته الدنيا، ألا وهو اجتماع عرفات في حجة الوداع التي حضرها ما يزيد على مائة ألف حاج وحاجة من شتى أنحاء الجزيرة وما حولها، اجتمعوا في صعيد عرفات، بعد أن أدى النبي الأمانة وبلغ الرسالة، أوقفه الله بعدها بين أصحابه في هذا المشهد العظيم، ليأخذ هذا العهد وهذا الميثاق الكبير، ويسألَ الناس جميعا، قائلا كما في صحيح مسلم: ((وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات)).
وألقى النبي في هذا اللقاء الكبير النظرة الأخيرة على أصحابه وعلى أتباعه وعلى أمته، ونزل عليه وهو في عرفات قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، وأنزلت عليه وسط أيام التشريق: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، فعرف أنه الوداع، كما روى البيهقي في سننه عن ابن عمر، وفهم الصحابة ذلك، حيث سأل عمر بن الخطاب ابن عباس عن هذه السورة وقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: أجَلٌ أو مَثَلٌ ضُرب لمحمد نعيت له نفسه. رواه البخاري.
وهكذا حج النبي حجة الوداع، وعلَّم أصحابه والأمة من بعدهم الركن الأخير من أركان الإسلام، ألا وهو الحج إلى بيت الله الحرام، وأخذ يشعر أصحابه بقرب أجله وانتقاله إلى جوار به، فقال لهم وهو في الحج كما في صحيح مسلم عن جابر : ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه))، وأمرهم النبي أن يرموا الجمرات بمثل حصى الخذف وقال: ((لعلي لا أراكم بعد عامي هذا)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، فعرف الصحابة أن رسول الله يودعهم، فارتفعت أصواتهم بالبكاء والضجيج، وكثر منهم النحيب. وكان قبل أن يتوجه إلى مكة لحجة الوداع قد بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وخرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا)) أو قال: ((لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري))، فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله ، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)) رواه أحمد.
وقبل أن يترك النبي مكة راجعا إلى المدينة بعد حجة الوداع يزور سعد بن أبي وقاص ـ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ ويطمئن على صحته حيث كان مريضا في تلك الأيام، ثم يودع النبي الكعبة أيضا، فيطوف بها طواف الوداع، ثم يرجع بعدها إلى المدينة المنورة، ويأتي يوم الاثنين لتبكي المدينة مرة أخرى، لا من الفرح كما كان عند مقدمه إليها، ولكن من الحزن هذه المرة، فلقد نام النبي على فراش الموت بعد عودته من عرفات بواحد وثمانين يوما، كما قال ابن جرير وغيره، وقد مرت عليه قبل موته أيام الوداع، وما أدراك ما تلك الأيام.
ذات يوم وفي جوف الليل الساكن الهادئ ينزل الأمين جبريل عليه السلام على النبي ويقول له: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، فيأتي النبي أهل البقيع ويقوم رافعا يديه إلى السماء وهو يدعو ويستغفر لهم.
وفي ليلة أخرى من تلك الليالي يوقظ النبي مولى له اسمه أبو مويهبة ويقول له: ((يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي))، يقول أبو مويهبة: فانطلقت معه في جوف الليل، فلما وقف عليهم قال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة أشد من الأولى))، ثم أقبل علي فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت بمفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي))، قلت: بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال: ((لا ـ والله ـ يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي))، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدئ رسول الله في وجعه الذي مات فيه. رواه الإمام أحمد في مسنده.
وأول معالم مرضه كان صداعا في رأسه، قالت عائشة: رجع إلي رسول الله ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، قال: ((بل أنا ـ يا عائشة ـ وا رأساه،)) ثم قال: ((وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك))، قلت: لكأني بك ـ والله ـ لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله ، ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه. رواه الإمام أحمد.
ثم اشتد عليه المرض في بيت زوجته ميمونة، قالت أسماء بنت عميس: أول ما اشتكى رسول الله في بيت ميمونة، فاشتد مرضه حتى أغمي عليه، فتشاور نساؤه في لده فلدوه ـ أي: أدخلوا في جانب فمه دواء بغير اختياره ـ، فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا: كراهية المريض للدواء. رواه البخاري عن عائشة.
ثم لما اشتد به الوجع استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فأذنّ له، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين علي بن أبي طالب، ولما دخل بيتها واشتد به وجعه قال: ((هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس))، فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي ـ إناء يغسل فيه ـ ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن، قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم. رواه البخاري عن عائشة.
وكان مما خطبهم في ذلك اليوم ما قاله أبو سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله في مرضه الذي مات فيه، ونحن في المسجد عاصبا رأسه بخرقة حتى أهوى نحو المنبر، فاستوى عليه واتبعناه فقال: ((والذي نفسي بيده، إني لأنظر إلى الحوض من مقامي هذا))، ثم قال: ((إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة))، قال: فلم يفطن لها أحد غير أبي بكر، فذرفت عيناه فبكى ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا يا رسول الله، قال: ثم هبط فما قام عليه ـ أي: المنبر ـ حتى الساعة. رواه الدارمي.
ثم ازداد مرضه وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال : ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف ـ أي: رقيق القلب سريع البكاء ـ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، قالت: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقالت له، فقال رسول الله : ((إنكن لأنتن صواحب يوسف ـ يعني في الجدال والإلحاح ـ، مروا أبا بكر فليصل بالناس))، قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله من نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض ـ وهما العباس وعلي ـ قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه فذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله : قم مكانك، فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله يصلي بالناس جالسا، وأبو بكر قائما، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي ، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر، وفي حديث ابن مسهر: فكان النبي يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير. رواه مسلم عن عائشة.
وكان سبب مرض النبي مؤامرة اليهودية حين دست له السم في طعامه الذي دعته إليه في خيبر، فأكل رسول الله منه وأكل القوم فقال: ((ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة)) رواه أبو داود، وفي مرضه الذي مات فيه قال: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)) أخرجه البخاري. والأبهر: عرق في الإنسان متصل بقلبه متى انقطع مات صاحبه.
إخواني في الله، ولما كان يوم الاثنين الذي قبض فيه النبي أحس بنشاط كما قال أنس بن مالك : بينما المسلمون هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ليلقي نظرة الوداع على أحبابه، على الأطهار الأبرار الأخيار، على أبي وعمر وعثمان وعلي، على بلال على صهيب، على عمار، على هؤلاء الأبرار، ثم تبسم يضحك، كأنما يودعهم وهم على مثل تلك الحال، صف واحد وبنيان مرصوص وكلمة واحدة، يطمئن على هؤلاء النفر الذين رباهم على عينه، فيضطرب الصحابة رضوان الله عليهم، وينكص أبو بكر على عقبيه ـ أي: يرجع إلى الوراء ـ ليصل الصف، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله ، فأشار إليهم بيده رسول الله: أن أتموا صلاتكم، وكأنها النظرة الأخيرة يودعهم فيها ويودعونه، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر. رواه البخاري.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كشف رسول الله الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: ((أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، وأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)). ورجع أبو بكر إلى أهله بالسنح في عوالي المدينة، والصحابة يظنون أن رسول الله قد أفاق من وجعه، ولا يدرون كيف يعاني من ألم المرض، دخل النبي الحجرة، ووضع رأسه في حجر عائشة حتى ثقل رأسه في حجرها، فجعلت تنفث عليه وتمسح بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدها. رواه مسلم. فعن عائشة أن رسول الله كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها. رواه البخاري. وللطبراني من حديث أبي موسى : فأفاق وهي تمسح صدره وتدعو بالشفاء فقال: ((لا، ولكن أسأل الله الرفيق الأعلى)).
ويزداد الكرب عليه، وتزداد السكرات والكربات، وتدخل زهرته فاطمة فترى الكرب يشتد على أبيها وحبيبها، فتصرخ وتقول: وا كرب أبتاه، فقال رسول الله : ((لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة)) صحيح سنن ابن ماجه عن أنس .
قالت عائشة: ودعا النبي فاطمة ابنته في شكواه الذي قبض فيه، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، قالت عائشة: فسألتها عن ذلك ـ يعني بعد وفاة رسول الله ـ فقالت: سارني النبي فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه فضحكت. أخرجه البخاري. وفي صحيح سنن ابن ماجه قالت فاطمة رضي الله عنها: إنه كان يحدثني أن جبرائيل كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة، وأنه عارضه به العام مرتين، ولا أراني إلا قد حضر أجلي.
ويشتد الألم على رسول الله فيأمر بركوة فيها ماء، ويدخل يده فيها ويمسح العرق عن جبينه الأزهر الأنور وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، إن للموت سكرات))، وفي رواية أحمد: ((اللهم أعني على سكرات الموت)). وكانت عائشة تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. رواه البخاري. وعن عائشة قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، فأبده رسول الله بصره، فأخذت السواك فقصمته بطرف أسناني ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي فاستن به، فما رأيت رسول الله استن استنانا قط أحسن منه. رواه البخاري. وكانت عائشة تقول: إن رسول الله كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات))، ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى)) حتى قبض، ومالت يده. أخرجه البخاري.
وقبل أن تميل يده الشريفة وتفارق روحه جسده قالت عائشة: كان رسول الله يقول وهو صحيح: ((إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير))، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف، ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى))، قلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي قوله: ((اللهم الرفيق الأعلى)) رواه البخاري. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: ((اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق)).
ويقبل ملك الموت على النبي لينادي على روحه الطاهرة: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ورب راض عنك غير غضبان، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، وتسقط يد النبي وتخرج عائشة تصرخ وتبكي: مات رسول الله، مات خير خلق الله، مات إمام النبيين، مات سيد المرسلين، مات الحبيب ، ويقابلها عمر بن الخطاب، فيصرخ ويشهر سيفه في الناس وهو في ناحية المسجد ويقول ـ كما في صحيح ابن ماجه ـ: (والله، ما مات رسول الله، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم).
وفي هذا الوقت كان أبو بكر في بيته في عوالي المدينة، فبلغه الخبر في وقت الضحى، قالت عائشة: وأقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم النبي ـ أي: قصده ـ وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. رواه البخاري. وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على النبي بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه.
ويخرج الصديق ليعلن هذه الحقيقة الكبرى، ليعلن أنه لا بقاء إلا لله الحي الذي لا يموت. خرج الصديق وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس فأبى، فقال: اجلس فأبى، فتشهد أبو بكر، فمال إليه الناس، وتركوا عمر، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد: فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فنشج الناس يبكون، قالت عائشة: والله، لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشرٌ إلا يتلوها. رواه البخاري. حتى قال عمر: والله، ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي قد مات. رواه البخاري. وعن أنس أن فاطمة بكت على رسول الله حين مات، فقالت: يا أبتاه، مِن ربه ما أدناه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه. أخرجه النسائي.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال في مرضه الذي مات فيه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا. متفق عليه. وفي مرضه الذي مات فيه وصى بالأنصار خيرًا، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ((أما بعد: فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئا يضر فيه قوما وينفع فيه آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) رواه البخاري عن ابن عباس . وكان من آخر وصاياه ما قاله أنس بن مالك : كانت عامة وصية رسول الله حين حضره الموت: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم))، حتى جعل رسول الله يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. رواه الإمام أحمد في المسند.
كانت هذه صورة مختصرة عن حدث وفاته ، وكانت مدة مرضه عشرة أيام كما عند البيهقي بإسناد صحيح.
أما تغسيله فقالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل النبي قالوا: والله، ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟! فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. رواه أبو داود.
وأما الصلاة عليه ففي مسند الإمام أحمد سئل أبو عسيب مولى رسول الله وقد شهد الصلاة على رسول الله : كيف صلي عليه؟ قال: فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه، ثم يخرجون من الباب الآخر. وفي مصنف بن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي رسول الله وضع على سريره، فكان الناس يدخلون زمرا زمرا يصلون عليه ويخرجون، ولم يؤمهم أحد.
وأما دفنه فقال ابن إسحاق: "وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول الله "، وألحد في قبره لحدًا. وعن أنس بن مالك قال: ولما نفضنا عن رسول الله الأيدي وإنا لفي دفنه ـ مشغولون ـ حتى أنكرنا قلوبنا، أي: لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة؛ لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من الرسول من التأييد والتعليم. رواه الترمذي وصححه.
ولما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟! أخرجه البخاري. قال أبو ذؤيب الهذلي ـ كما في فتح الباري ـ: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعا بالإحرام، فقلت: مه؟! فقالوا: قبض رسول الله . وقال عثمان : توفي رسول الله فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان بعضهم يوسوس، فكنت ممن حزن عليه، فبينما أنا جالس في أطم من آطام المدينة ـ وقد بويع أبو بكر ـ إذ مر بي عمر فسلم علي، فلم أشعر به لما بي من الحزن. وفي الصحيحين عن أنس أن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله .
ولنا معه لقاء على الحوض المورود، وهذا ما يعزينا في نفوسنا من فقد رسول الله ، أننا نرجو لقاءه والشرب من يده شربة لا نظمأ بعدها أبدا إن شاء الله تعالى، ومما يعزينا أيضا أننا نحرص على اتباعه والتمسك بسنته والأخذ بما أمرنا به والانتهاء عما نهانا عنه.
اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولا عن رسالته، اللهم لا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم احشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة، لا نرد ولا نظمأ بعدها أبدا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|