أما بعد: فيقول الله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة:196]. أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بإتمام العمرة له سبحانه، فالعمرة شعيرة من شعائر ديننا الحنيف.
والعمرة في لغة العرب: الزيارة، وهي في اصطلاح فقهائنا: زيارة البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة.
وقد أجمع العلماء على مشروعية العمرة، ولكنهم اختلفوا في حكمها، فقال بعضهم بوجوبها، والصحيح قول من قال باستحبابها. وأما قول الله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فلا يدل على وجوبها، بل غاية ما في الآية الكريمة الأمر بإتمامها لمن شرع فيها.
عباد الله، جاء في السنة النبوية المطهرة ما يدل على عظيم فضل هذه الشعيرة، فمن ذلك أنها تمحو الآثام وتكفر الذنوب، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) أخرجه الشيخان. وندب النبي إلى الإكثار منها فقال: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب)) أخرجه الترمذي والنسائي. وامتدح المعتمرين بقوله: ((الحُجّاج والعُمّار وَفْد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم)) أخرجه ابن ماجه والبزار. فليستبشر من عزم على العمرة بهذه النصوص.
أيها المؤمنون، ليس للعمرة وقت معين، بل توقع في أي وقت ما عدا أيام الحج. وأفضل أوقاتها في رمضان لقول نبينا : ((عمرة في رمضان تعدل حجة معي)) أخرجه الشيخان. فإن لم يتمكن المسلم من ذلك فليحاول القيام بها في أشهر الحج؛ لأن النبي اعتمر أربع مرات جميعها في أشهر الحج.
ولا ينبغي لمسلم أن يعتقد أن للعمرة في رجب ميزة معينة، فهذا مما لا دليل عليه، فقد دلت الأحاديث على أن النبي لم يعتمر في رجب، قال مجاهد: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها، فسئل: كم اعتمر رسول الله ؟ قال: أربعًا إحداهن في رجب، فكرهنا أن نرد عليه، فقال عروة: يا أماه، يا أم المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟! قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إن رسول الله اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب.، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهد ـ أي: حاضر معه ـ، وما اعتمر في رجب قط. أخرجه الشيخان. وجاء عند مسلم: وابن عمر يسمع فما قال: لا ولا نعم. قال النووي: "قال العلماء: هذا يدل على أنه ـ أي: ابن عمر ـ اشتبه عليه أو نسي أو شك. ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة".
وأما الوقت الذي ينبغي أن يكون بين العمرة والعمرة فقد قال الإمام أحمد لما سئل: كم بين العمرتين؟ قال: "ينتظر حتى يُحَمَّمُ رأسه. أي: يسودّ بنبات الشعر عليه".
معشر المؤمنين، من عزم على أداء هذه العبادة العظيمة فعليه أن يتنبه لهذه الأمور:
أن يخلص في عبادته؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وأن لا يريد بعمله الدنيا وحُطَامها، قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15، 16]، وقال: من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:18].
ومنها أن يقف على أحكامها ويتعلم هدي النبي فيها؛ لأن الله لا يقبل العمل إذا خالف هدي النبي ، ولذا قال النبي لأصحابه يوم حجة الوادع: ((لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) أخرجه مسلم.
ومنها التوبة ورد المظالم، قال النبي : ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار)) أخرجه مسلم.
ومنها أن يتزود لعمرته لئلا يريق ماء وجهه بسؤال الناس، قال النبي : ((من تكفَّل لي أن لا يسأل شيئًا وأتكفّل له بالجنة؟)) فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا. أخرجه أحمد.
ومنها أن يعتمر بمال حلال؛ فإن الله طيب ولا يقبل إلا طيبًا، ومن اعتمر بمال سُحْت فإنما أتعب نفسه.
عباد الله، صفة العمرة أن يحرم المعتمر فيتجرّد من لباسه، ويلبس الإزار والرداء، وله أن يتطيب في بدنه، فإن بقي أَثَرُ الطيب وفاحت رائحته بعد الإحرام فلا حرج عليه في ذلك. وينبغي أن يختار البياض من الثياب. ولا يحل له أن يلبس الخُفّ إلا إذا لم يجد غيره. وليس للمرأة ثياب معينة لإحرامها، بل حجابها الشرعي هو إحرامها، لكنها لا تَنْتَقِب ولا تلبس القفّازين؛ لقول النبي : ((لا تَنْتَقِب المحرمة، ولا تلبس القفّازين)) أخرجه البخاري. وإذا مر الرجال بها سترت وجهها بلا نقاب.
ثم يشرع المعتمر في التلبية بعد أن يقول: لبيك عمرة، يلبي قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. يجهر بها في الطرقات، وهذا هو هدي النبي ، فإذا بدأ في الطواف قطع التلبية.
ويبدأ الطواف بمجرد دخوله للمسجد الحرام، والبداية والنهاية تكون عند الحجر الأسود، فإن استطاع أن يستلمه استلمه وقبّله وكبّر وبدأ طوافه، وإلا استلمه بعصا ونحوها وقبّل ما استلم به، وإن لم يتيسر له شيء من ذلك أشار إليه، ولا يقبّل يديه، وكبّر وبدأ الطواف.
وفي الطواف سنتان: الرَّمَل وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى، ويكون في الأشواط الثلاثة الأولى. والاضْطِبَاع وهو أن يجعل طرفي ردائه على كتفه الأيسر، ويبدي الكتف الأيمن، ويكون هكذا في الطواف كله. فإذا فرغ من طوافه أعاد ثيابه فوق كتفه، ولا يصلي ركعتي الطواف مُضْطَبِعًا.
فإذا جاء إلى الركن اليماني ـ وهو الركن السابق للحجر الأسود ـ استلمه بلا تقبيل، ويقول بينه وبين الحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. ويكون طوافه بالبيت على طهارة.
والمرأة إذا أحرمت ثم حاضت بقيت على إحرامها حتى تطهر، ولا تطوف بحيضتها.
وإذا شك الطائف في عدد الأشواط بنى على الأقل. وإذا أقيمت الصلاة صلى وأكمل طوافه ولم يستأنف من جديد. ولا يطوف داخل الحِجْر الذي يسمى بحِجْر إسماعيل، وإسماعيل عليه السلام لا علاقة له به؛ فالحِجْر جزء من الكعبة.
فإذا فرغ من الطواف قصد المقام وقرأ: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وصلّى خلفه ركعتين إن تيسر له ذلك، وإلا ففي أي مكان من المسجد، ويقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة الكافرون، وفي الثانية بالفاتحة والإخلاص. ثم يشرب من ماء زمزم، ويستلم الحَجَر الأسود إن تيسر له ذلك.
ثم يذهب إلى جبل الصفا، ويقرأ قبيل الوصول إليه: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، ويقول: أبدأ بما بدأ الله به. ثم يرقى الصفا حتى يعاين الكعبة، فيرفع يديه ويقول: الله أكبر ـ ثلاثًا ـ لا إله إلا وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بخيري الدنيا والآخرة، ثم يقول الذكر، ثم يدعو، ثم يكرر الذكر، ثم ينصرف، فإذا وصل إلى العلم الأخضر ركض بين العلمين من غير أن يؤذي أحدًا، فإن لم يتمكن من ذلك إلا بأذية بعض المسلمين فلا يركض؛ لأن ترك الأذية واجب، والركض مستحب، والواجب مقدم على المستحب.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فيا فوز المستغفرين.
|