وبعد: فقد فضل الله سبحانه وتعالى بعض الأزمنة على بعض، وجعل منها مواسم للطاعة وفرصة للتجارة الرابحة، ومن تلك المواسم والأزمنة الخيرة والتي يغتنمها المسلمون العشر الأواخر من شهر رمضان، حيث جعل الله فيها خصائص ومزايا وفضائل قلَّ أن يكون لها نظير في أيام وليالي السنة، فلَيالي العشر الأواخر من شهر رمضان لها فضائل، وذلك أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر، فالعبادة والطاعة في هذه الليلة تعدل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، فهي ليلة مباركة أنزل الله فيها القرآن كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
وهي الليلة التي فيها يفرق كل أمر حكيم، كما أخبر عن ذلك رب العالمين فقال تعالى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:1-4]، ولذلك حث رسول الله على قيامها فقال: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه من حديث أبي هريرة . ومعنى ((إيمانًا واحتسابًا)) كما قال الحافظ في الفتح (4/251): "أي: تصديقًا بوعد الله بالثواب عليه، وطلبًا للأجر، لا لقصد آخر من رياء أو نحوه".
فيا أيها المسلمون، إن الذي ينبغي على الصائمين الاجتهاد في العبادة في ليالي العشر، والإكثار من الذكر وتلاوة القرآن، والحرص على القيام وإحياء الليل كله في طاعة الله، فقد كان هذا هو هدي نبيكم ، ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
وكان رسول الله من شدة اجتهاده في الطاعة في العشر الأواخر ومبالغته فيها يعتزل النساء؛ ليتفرغ للعبادة والطاعة، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر. وشد المئزر كناية عن اعتزاله للنساء.
فاقتدوا ـ رحمكم الله تعالى ـ بنبيكم عليه الصلاة والسلام، واجتهدوا في الطاعة في هذه الليالي المباركة، ولا تنشغلوا عنها بالبيع والشراء وشراء لوازم العيد، فإنّ من حرم خير هذه الليالي فقد حرم خيرًا كثيرًا، والموفق من وفقه الله تعالى لطاعته.
فيا عباد الله، إن كثيرًا من الناس يغفلون عن ليالي العشر، لأنهم قد اعتادوا في هذه الليالي التجوال في الأسواق لشراء مستلزمات العيد، فهو في كل ليالي العشر أو أكثرها مشغول إما بالبيع أو الشراء، فلا أعطى لنفسه نصيبًا من الطاعة، ولا تفرغ لإحياء ليلة من لياليها ولو بالقيام، فما هذه الغفلة يا عباد الله؟! وما هذا الإعراض أيها المسلمون؟! أنسيتم الآخرة وأهوالها وغفلتم عن النار وجحيمها؟! ألم تذكروا هادم اللذات ومفرق الجماعات؟! ألم تتعظوا بما جرى للأولين الغابرين؟!
فالله الله عباد الله، واتركوا الغفلة والإعراض، واغتنموا مواسم الطاعات والعبادات، فإن العمر قصير والزاد قليل والسفر طويل وكل مرتهن بعمله، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، وما ربك بظلام للعبيد.
وإن من أسوأ الفعال وأرذل الأعمال من ضيعوا وقتهم وأعمارهم حتى في تلك الليالي المباركة، بمشاهدة الأفلام الخليعة والمسلسلات المبتذلة والمسرحيات الهابطة، والتي كانت سببًا في تدمير أخلاقيات الأمة، بل إن من الناس من تراه حتى في ليالي العشر يأنس بسماع الأغاني ومتابعة الفوازير الشيطانية، والتي سميت زورًا وكذبًا بالفوازير الرمضانية، فتراه يشنف آذانه بسماع ما يغضب الرحمن ويسلي نفسه بمشاهدة ما يرضي الشيطان، فأين هؤلاء من غضب الديان؟! وأين هم من عذاب الواحد القهار؟!
فلا تضيعوا ـ عباد الله ـ ساعات هذه الليالي والأيام واغتنموها، فلعل أحدكم لا يدركه رمضان آخر إلا وهو في عداد الموتى والمقبورين، فهنيئًا لمن اغتنمه بالطاعة والذكر والقيام، وبئس من فرط في هذه الليالي المباركة وضيعها بمجالس اللهو واللعب والعصيان.
فاللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا في المقبولين في هذا الشهر الكريم. آمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
|