لقد جاءت نصوص الوحيين مُستفيضة بذكر حقوق الزوجين وواجباتهما، خاصّة على أن يقوم كلٌ منهما بما عليه من حق شريكه، وإن البيت الذي لا تقوم أركانه ولا تُبنى أساساته على نور من الكتاب والسنة لحري أن لا يدوم بنيانه إن بُني.
عباد الله، هذه دعوة وعودة سريعة لتلك الرحلة الماتعة التي عشنا جزءًا منها في الجمعة الماضية بين جَنَبات ذلك البيت الرائع الجميل الذي عاش بين جدرانه أفضل وأكمل وأعظم زوج وطئت قدمه الأرض عليه الصلاة والسلام، عاش فيه مع تسع نسوة هن زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن. ورغم كل المهام العظام التي كان يتحملها من قيادة الأمة ودعوة العالمين لدين الله، ورغم ضيق العيش وقلة ذات اليد إلا أن هديه عليه الصلاة والسلام كزوج كان أكمل هدي وأتمه، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فلنقارن ـ يا عباد الله ـ بين تلك الصور الفذّة الفريدة في لطفه وبرّه ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه وبين كثير من النماذج التي تحدث من الرجال في بيوتهم.
لقد كان ينادي عائشة بترَخِيم اسمها تلطّفًا وتودّدًا، فيقول: ((يا عائش، هذا جبريل يقرئك السلام)) رواه البخاري ومسلم.
ويوضح في غير ما موضع المكانة الرفيعة للمرأة عنده، يسأله عمرو بن العاص فيقول: أي الناس أحب إليك؟ فيقول: ((عائشة)).
وتروي رضي الله عنها عن حسن معاشرته فتقول: كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه، فيبادرني إليه حتى أقول: دع لي، دع لي. وتدافعا عند الخروج من الباب مرّة.
ويضرب أروع الصور في لِين الجانب ومعرفة الرغبات العاطفية والنفسية للزوجة. تروي عائشة رضي الله عنها تقول: كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي فيضع فاه على موضع فيّ، وأتَعَرَّق العِرْق ـ أي: آخذ ما على العظم من اللحم ـ فيتناوله ويضع فاه في موضع فيّ. بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وعنها رضي الله عنها قالت: ما عاب رسول الله طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. رواه البخاري.
ولا تنس ـ يا رعاك الله ـ ذَيْنك الموقفين اللذين تقدما معنا، البسيطين في فعلهما، العظيمين في تأثيرهما: أولهما حين كانت عائشة تنظر من فوق عاتقه للحبشة وهم يلعبون بحرابهم في المسجد وهو يسترها، فما ينصرف حتى تكون هي التي تنصرف. وأما الآخر فحينما كانت رضي الله عنها معه في سفر، فأمر الناس فتقدّموا، ثم قال لها: ((تعالي أسابقك))، فسابقته فسبقته، ثم خرجت معه في سفر وقد سمنت وبدنت، فأمر الناس فتقدّموا، ودعاها ليسابقها فسبقها، ثم قال لها ملاطفًا ممازحًا وهو يضحك: ((هذه بتلك)).
وأخرج الشيخان عنها رضي الله عنها أنها قالت: كنت ألعب بالبنات ـ أي: بتماثيل البنات ـ عند رسول الله ، وكانت تأتيني صواحبي فيَنْقَمِعْنَ من رسول الله إذا رأينه ـ أي: يستترن منه ـ فيُسرِّبُهنّ إليّ. أي: يردّهن ويرسلهنّ إليّ فيلعبن معي.
وقدم من غزوة فدخل على عائشة، فهبّت ريح فكشفت ناحيةً عن بنات لُعبٍ لها، فقال: ((ما هذا؟)) قالت: بناتي. ورأى بين ظهرانيهن فرسًا له جناحان، قال: ((فرس له جناحان؟!)) فقالت: أَوَما سمعت بأن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟! فضحك حتى بدت نواجِذُه.
وفي الحديث المشهور المسمّى بحديث أمّ زَرْع، وملخّصه أنّ إحدى عشرة امرأة جلسن فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، حتى جاء الدور على الأخيرة ـ أم زَرْع ـ، فجعلت تمدحه وتثني عليه لجميل صنيعه معها مع أنه طلقها، وفي آخر الحديث يخاطب النبي عائشة مداعبًا: ((كنت لك كأبي زَرْع لأم زَرْع، غير أني لم أطلقك)).
بل تأمّل وتأمّل وتأمّل ـ يا رعاك الله ـ وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لحجة النبي ، كما رواها الإمام مسلم في صحيحه. فإن النبي أمر عائشة حين حاضت وقد أحرمت أن تُدخِل العمرة في الحج، فلما انقضى الحج قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة؟! قال جابر: وكان رسول الله رجلاً سهلاً إذا هويت شيئًا تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر، فأهَلَّت بعمرة من التنعيم. قال النووي: "معناه إذا هويت شيئًا لا نقص فيه في الدين أجابها إليه، وفيه حسن معاشرة الأزواج، لا سيما فيما كان من باب الطاعة" اهـ.
فانظر كيف كانت رعاية المصطفى لزوجته وحبيبته أم المؤمنين عائشة، وقد كان دخل بها وهي حديثة السن صغيرة، انظر كيف كان يرعى مشاعرها وينتبه إلى متطلّباتها وما تهفو إليه نفسها من المباحات، فيوفّر ذلك لها على قدر طاقته: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
|