للبيوت أسرارُها، وللعلاقات الزوجية سماتُها، وفي حياة كل زوجين أفراح وأتراح، فيومًا تطيب العشرة بين الزوجين، فيصبحان وكأنهما أسعد زوجين، ينعمان بعيشة هَنيّة وحياة زوجية هانئة هادئة، ويومًا يحدث في البيت ما يُعكّر صفوه ويُكدّر هناءه، فتتباعد القلوب، وتستوحش النفوس، ويضيق البيت على سعته بساكنيه، وبين هذين اليومين أيام وأيام تكون شَوْبًا من المودّة والبغض وخليطًا من الحب والكراهية، فيا ترى هل هناك بيت يخلو من المشاكل والمنغّصات بين الزوجين؟! ومَن الزوج المثالي الذي يحسن إدارة منزله ويجيد قيادة مركب العائلة حتى لا تغرقه أمواج الشقاق ويبتلعه طوفان المشكلات؟!
أيها الأحبة، ليس منا أحد يدّعي أنه ذلك الرجل، ولكن دعونا نرحل إلى منزل زوج مثالي كان قدوة عظيمة في فن إدارة منزله، إنه زوج لا كالأزواج، رجل كان على خُلُق رفيع ومنهج حميد، استطاع بحكمته وبرفقه ولينه أن يدير منزله أحسن إدارة، لم يكن يماثله أحد في الخُلُق والعدل، ولم يكن أغنى الناس، بل كان من أقلّهم مالاً، تمضي عليه الأيام والليالي الكثيرة ولم يذق طعامًا مطبوخًا، كان بيته صغيرًا، لا باحات فيه ولا ساحات، ولا ملاحق ولا مقدّمات، بل كان منزله مُكونًا من حجرات قليلة، في كل حجرة منها تسكن إحدى زوجاته، هذا الرجل كان يحمل رسالة عظيمة، وقد وُكِلت إليه مهمة جسيمة، ولكن مهمته تلك لم تشغله عن إصلاح منزله ورعاية أسرته والترفّق مع مشاكل البيت.
ومع أنه كان قمّة في الخلق واللين والصفح عن المخطئ والعفو عن الجاهل إلا أنه لم يخل بيته من المشكلات الزوجية، ولم يسلم بيته من حدوث المنغّصات والمكدّرات، مثله مثل سائر بيوت الناس.
إنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، هذا النبي الكريم الذي اصطفاه ربه من بين الخلائق أجمعين، زكّاه ربه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقد أمرنا ربنا جلّ وعلا بالتأسّي به: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. فصلّى الله عليه وسلّم ما تعاقب الليل والنهار.
عباد الله، تعالوا بنا نسائل زوجاته أمهات المؤمنين فنسمع منهن ما كان يقع في بيت محمد من بعض المكدّرات والمشكلات، وكيف تعامل معها هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولننظر ولنقارن بين ما قد نفعله نحن حيال ما يقع في بيوتنا وبين ما فعله محمد .
عباد الله، لو اكتشف أحدنا أن زوجته تشكّ في بعض تصرفاته، وربما تلصَّصَت على أقواله أو أفعاله أو تبعت خطواته هنا أو هناك، يدفعها إلى ذلك الرِّيبة وسوء الظن، ماذا سيصنع بها زوجها؟ وما موقفه من هذه الأنثى الضعيفة التي تجرح كبرياءه بشكّها وتهدّد قوامته برصدها ومتابعتها؟ أيلطمها ويسبّها، أم يتفوّه بطلاقها، أم يبادلها الشكّ والرِّيبة ويضع تصرّفاتها تحت مجهره وبين عينيه؟! ربما فعل أحدنا ذلك كله أو بعضه، ولكن دعونا نعرض ذلك على بيت محمد ، وهل وقع شيء من ذلك، وما الذي صنعه أفضل الخلق ؟
تحدثنا أمّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: ألا أحدثكم عن النبي وعني، قالوا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي كان فيها النبي عندي انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدتُ فأخذ رداءه رويدًا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه ـ أي: أغلقه ـ رويدًا، فجعلتُ دِرْعِي في رأسي، واختمرت وتقنّعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البَقِيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت ـ والإحضار العدْو ـ فسبقتُه، فدخلتُ فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: ((ما لك يا عائشُ حَشْيا رابيةً؟)) ـ يعني أنّ نفَسَها مرتفع ـ قالت: لا شيء، قال: ((لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير))، قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأخبرته، قال: ((فأنتِ السّواد الذي رأيت أمامي؟)) قلت: نعم، فلَهَدَني في صدري لَهْدَة أوجعتني ـ ومعنى لَهَدَني: دفعني ـ ثم قال: ((أظننتِ أن يحيف الله عليك ورسوله؟!)) قالت: مهما يكتم الناس يعلمْه الله.
ثم انظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى أَرِيحيّته وسعة صدره وهو يبيّن لها في آخر الليل السبب الذي دعاه إلى ما صنع، قال: ((فإن جبريل أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعتِ ثيابك، وظننتُ أن قد رقدتِ، فكرهت أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم)) الحديث، رواه مسلم في صحيحه.
ومثال آخر، لو طلبت زوجة أحدنا منه أن يساعدها في تنظيف المنزل أو ترتيب أركانه فما عساه يقول في جوابها؟ أيوافق مستبشرًا، أم يُكشّر غاضبًا وكأنّ رجولته قد انتقصت؟! أمّا محمد بن عبد الله فتقول عنه زوجه عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة: ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ تعني خدمة أهله ـ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
ومن ظن أنه قد يخلو بيت من المشكلات فقد أبعد النُّجْعَة وطلب محالاً، فإذا كان محمد وهو سيد البشر وأفضلهم وأتقاهم ونساؤه أمهات المؤمنين ولم يكن لربه سبحانه أن يزوجه إلا من ذوات الفضل والخلق والمعدن الكريم، ومع ذلك لم يخل بيته من تلك المشكلات المعتادة في البيوت فبيوت غيره من الناس أحرى.
ها هو عمر بن الخطاب يحدثنا عما علمه وسمعه وشاهده فيقول: كنا ـ معشر قريش ـ نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخِبتُ على امرأتي فراجعتني ـ أي: رادَدَتْنِي في القول وناظرتني فيه ـ فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك؟! فوالله، إن أزواج النبي ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم إلى الليل، فأفزعني ذلك، وقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن، ثم جمعتُ عليّ ثيابي فنزلت فدخلتُ على حفصة ـ زوج النبي ـ فقلتُ لها: أي حفصة، أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل؟! قالت: نعم، قلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلِكي؟! الحديث، أخرجه البخاري.
لقد كان رسول الله الحاكم السياسي والقائد العسكري والمفتي الشرعي، ومع ذلك كله كان الزوج الشفيق والأب الرحيم، فهل يعي رجال المسلمين وشبابهم تلك النماذج النبوية الرائعة؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|