أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، اتقوا الله فإنَّ تقواه أفضل مكتَسَب وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، الإسلام دينُ الملّةِ المستقيمة والشريعةِ العادِلة، تتجلَّى في أحكامِه حِكَمُه وفي تشريعاتِه محاسِنُه وفي تكاليفِه آثارُه ومقاصده وفضائلُه وفي أركانه عظَمَته ورِفعته، ورُكن الزّكاة هو ثالِث أركان الإسلام ومبانِيهِ العِظام، فريضةٌ واجِبة في آيٍ وأَخبار وإجماعِ علَماء المسلمين على مرِّ الأعصَار، حقٌّ معلوم وجُزء مَقسوم وسَهم محتوم، أوجَب الله على كلِّ من ملَك نصابًا إخراجَه إلى من لا مالَ له يَقيه ولا كِفاية عِنده تُسعِفه وتحميه، وِقايةً لمالِ المزَكّي من الآفات، وسَببًا للزيادة والتَّضعيف وحصولِ البركات. في إيجابِها مواساةٌ للفقراء ومَعونة للبُؤَساء والضعفاء وصِلة بين ذوِي الحاجاتِ والأغنياء وعونٌ على مجانبة البخل والشّحِّ والإباء عن العطاء. كم سدَّت مِن خَلّة، وكَم جبرت من فاقَة، وكم فرَّجت عن معسِر كُرِب ومِسكينٍ مدقِع وفقير مملِق، فضائلُها لا تعَدّ وبَركاتها لا تحَدّ. وكلُّ ما يبعَث على العطف والشّفَقة والرّحمة والإحسان فأجدِر به حمدًا، وكلُّ ما صدَّ عن ذلك فأخلِق به ذمًّا. بُرهانٌ وعنوان على صِدق الإيمان، وفُرقان بين المنافقِ الجَموع المَنوع وبين المؤمن الخاضِعِ للحقِّ الواجِبِ المشروعِ.
يجِب إخراجُها علَى الفَور بوضعِها في مواضِعها وصرفِها في مصارِفها وإيصالها إلى مستحقِّيها، وهم ثمانِيَةُ أصناف، لا يجوز صرفُها إلى غيرِهم مِن بناء المساجد والقناطِر وتكفينِ الموتَى ووَقف المصاحف وغيرِها من جِهات البر والخير لقوله جلَّ في علاه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
مَن جحَد وجوبَها كفَر، ومن منعها أخِذَت منه قَهرًا، وقيل: يأخذ الإمامُ معها الشَّطرَا، فعن بهزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جدِّه أن رسول الله قال: ((من أعطاها مؤتجِرًا فله أجرها، ومن مَنَعها فإنَّا آخذوها وشطرَ ماله، عزمةً من عزَمات ربِّنا عزّ وجلّ، لا يحلّ لآل محمّدٍ منها شيء)) أخرجه أحمد وأبو داودَ والنسائيّ وصححه الحاكم. ومَن حبسها تهاونًا وأمسَكَها تكاسلاً وكتمَها بخلاً وغيَّبها شحًّا أو أنقَصَها أو أخَّرها عن وقت وجوبها مع إمكانِ أدائها وداعي إِخراجها فهو عاصٍ وآثم ومعتدٍ وظالمٌ، لا يسلَم مِن تبِعَتها ولا يخرج من عُهدتها إلاّ بإخراجِ ما وجَب في ذمّتِه منها وتعلَّق بماله من حقِّها. ومَن مضَت عليه سنون لم يؤدِّ زكاتَها لزِمَه إخراجُ الزكاة عن جميعها والتّوبةُ والاستغفار عن تأخيرِها.
يا مَن جمع المال وأوعَاه ومنَع حقَّ الله فيه وأوكاه وكنزه وأخفاه سَتَنال عِقاب ما بخِلت، وستُعايِن شؤمَ ما عمِلتَ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الهدَى : ((من آتَاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرَع له زبيبتان، يُطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمَتَيه ـ يعني بشِدقَيه ـ ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزك))، ثم تلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 180] أخرجه البخاري، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ما مِن صاحبِ ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدِّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صفِّحَت له صفائِح من نار فأحمِي عليها في نار جهنَّم، فيُكوَى بها جَنبه وجبينُه وظهره، كلَّما رُدَّت أُعيدت له، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يُقضَى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، ولا صاحبِ إبلٍ لا يؤدِّي منها حقَّها ـ ومِن حقِّها حلبُها يومَ وِردِها ـ إلاّ إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاعٍ قَرقَرٍ أَوفرَ ما كانَت، لا يفقِد منها فصِيلاً واحدًا، تطؤُه بأخفافِها وتعضّه بأفواهها، كلّما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنَة، حتى يقضَى بين العباد فيرى سبيلَه إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار، ولا صاحب بَقَر ولا غنَم لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاع قَرقَر لا يفقِد منها شيئًا، ليس فيها عَقصاء ولا جَلحاءُ ولا عَضباء، تنطَحُه بقرونها وتطؤُه بأظلافها، كلّما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يقضَى بين العباد فيَرى سبيلَه إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار)) أخرجه مسلم. يا لها من عقوبةٍ مغلَّظة ترجُف منها القلوبُ المؤمِنة.
يا مانِع الزَّكاة، أنسِيتَ أن الأموالَ عارِيَة عند أربابها وودِيعة عند أصحابها؟! أنَسيتَ أنّ الزّكاة يعود نفعُها عليك ويرجِع ثوابها إليك؟! فحذارِ حذار أن تكونَ ممّن يراها نقصًا ويعدّها غُرمًا وخسارًا، فلا ينفِق إلاّ كرهًا، ولا يرجو لما يُعطي ثوابًا.
يا عَبد الله، زكِّ مالَك بإخلاصٍ واحتساب، زكِّ مالَك بانشراحٍ وطِيب نفسٍ رجاءَ الثّواب، فعن عبدِ الله بنِ معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثةٌ من فعلَهنّ فقد طعِم طعمَ الإيمان: من عبد الله وحدَه وأنّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه رافِدَةً عليه كلَّ عام، ولا يعطي الهرِمة ولا الدَّرِنة ولا المريضة ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسَط أموالِكم، فإنَّ الله لم يسأَلكم خيرَه ولم يأمُركم بشرِّه)) أخرجه أبو داود.
يا أهلَ المال والرِّياش والكسب والمعاش، ارحموا السائلَ المحروم، وأَعطوا الفقيرَ المعدوم، وتصدَّقوا على المسكين المهموم الذي لا يجِد ما يقوم به وكِفايَتِه وكفاية من يمون.
يا أهلَ البَذل والسّخاء والإنفاق والعَطاء، أبشِروا بحسنِ الجزاءِ والخَلَف والبركة والنّماء، فقد قال الصادق المصدوق : ((ما نقَصَت صدقةٌ من مال)) أخرجه مسلم.
يا مَن وفَّقك الله لأدائها وأعانَك على إخراجها، جعلها الله لك طَهورًا ونورًا وقربَة وهناءَةً وسرورًا، وآجَرك الله فيما أعطَيتَ، وبارك لك فيما أنفَقتَ، قال جل في عُلاه: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، فقد فاز المستغفِرون.
|