أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ سرًّا وجَهرًا لَيلاً ونهارًا.
أيها المسلمون، كتابُ الله سبحانه وسنّة رسوله لم يترُكا في سبيل الهِداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يُعتَدّ به، فالدين قد كَمُل، والسعادة الكبرى فيما وضع، والطِلْبة فيما شرَع، وما سِوى ذلك فضلالٌ وبهتانٌ وإفكٌ وخسران، والعاقد عَليهما بكِلتا يديه مستمسكٌ بالعروة الوثقى، محصِّلٌ لكلمتَي الخير دنيًا وأخرى.
إخوة الإيمان، دين الإسلام مبنيٌّ على أصلين عظيمين وركيزتين أساسيتين: الإخلاص لله جل وعلا والاتّباع لهدي المصطفى ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112].
وخيرُ طريق يكون به الاتِّباع المحمود ويحصُل به الاقتِداء المنشود هو طريق نبيِّنا ؛ إذ طريقه هو الَمعِين الصافي ومصدَر النور والهدى وإشعاع الخير والفلاح والزكاء، والبُعد عن هذا الطريق أو الجنوح عنه بليّةٌ عظمى وفِتنةٌ كبرى يدعو إليهَا عدوُّ الأمّةِ إبليسُ وحِزبه، يستغِلّ جهلَ بعضِ المسلمين لدينهم أو مَيلَهم مع الهوى، فيزيِّن لهم ما ليس بمشروع، ويُحسّن لهم ما ليس بمحمود، يُحدث لهم رهبانيّة مبتدَعة وشرائعَ محدثة تنأى بهم عن عِلم السنّةِ المطهرة، يُسوّغ لهم التعصّبَ للآراء والرِّجال لِيحولَ بين المرءِ واتِّباع الدليل وسبيلِ الحقّ، وبذا انحرَف بعضٌ عن سواءِ السبيل، فشوَّهوا حقيقةَ الدين، وأصبحوا لا يفرّقون بين حقٍّ وباطلٍ، ولا يعرفون السنَّة من خلافِها، فظنوا الحسنَ قبيحًا والقبيحَ حسنًا، فصدق فيهم قول المولى جل وعلا: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، فما يفتح لهم الشيطان بابًا من الضّلال إلا ولَجُوه، ولا يُزيِّن لهم طريقًا من طُرقِ البدَع إلاّ سلكوه.
أيّها المسلمون، لا شيءَ بعد الشرك أعظم فسادًا للدّين وأشدّ تقويضًا لبنيانه وأكثر تفريقًا لشمل الأمّة من البدع؛ فهي تفتِك به فتكَ الذئب في الغنم، وتنخر فيه نخرَ السوس في الحبِّ، وتسري في كيانه سَريان السرطان في الدّم والنار في الهشيم، جَعَلَت المسلمين شِيعًا وأحزابًا، شتَّت شملهم، وجعلتم لقمةً سائغةً لأعدائهم؛ إذ فيها البُعد عن الصراط المستقيم والهديِ المستبين، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
ومن هنا ـ إخوة الإيمان ـ جاءت النصوص المتكاثرة والأدلة المتضَافِرة في وجوبِ اتّباع السنَّة والتحذير من البدعةِ وكشف سوءِ عاقبتِها في الدنيا والآخرة.
فهذا كتاب ربِّنا يبيِّن لنا عظيمَ ثواب الاتّباع وكبيرَ خطَر الابتداع، يقول سبحانه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدع). ويقول عزّ شأنه مبيِّنًا أن البدعَ تفريقٌ للدّين وخروجٌ عن هدي سيِّد المرسَلين : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، جاء عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((هم أصحاب الأهواء والبِدَع والضلالة من هذه الأمة)).
ولذا فمن له عقلٌ بَصيرٌ ورأيٌ سديدٌ يجِد عظمَ المصائب والفتَن التي وُجِدَت في هذه الأمّة عبر تأريخها إنما ترجع في أصلها ولو من طَرْفٍ خفيّ إلى الإفراط والتفريط أو الغلوّ والتقصير في الهديِ النبويِّ الرشيد والمسلَك السّلفيِّ السديد، وما تفرَّقت الأمّة أحزابًا وشيَعًا إلاّ بسبَب التنكُّبِ عن الصراط المستقيم والهديِ النبويّ الكريم، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، قال مجاهد وغيره: "هذه لأمّة محمد ".
أتباعَ محمد ، نبيّنا عليه أفضلُ الصلاة والسلام حَريصٌ على أمّتِه مشفِقٌ عليهم رَحيمٌ بهم، حذَّرهم من الابتِداع أشدَّ التحذير، وأوصاهم باتّباع سنّته وسنّة خلفائه الراشدين؛ فلا تخالفوا أمرَه، ولا تنتهِجوا غيرَ نهجه، تمسَّكوا بهديه، واستنّوا بسنّته؛ يكن منهجُكم سويًّا سليمًا وصحيحًا مستقيمًا، في الصحيحين عن النبي أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، قال العلماء: "وهذا الحديث ثلُث العِلم لأنّه جمع وجوهَ أمرِ المخالفَة لأمره ".
ويوجز لنا مَكمَن الخير ومستَودَع السلامة والأمنِ، فيقول فيما صح عنه: ((علكيم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ)). وفي هذا الحديث يوضّح المصطفى أصلَ الشرّ والفساد فيقول محذِّرًا: ((وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). وكان يقول في خطبته يوم الجمعة: ((أما بعد: فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ رسولِ الله، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة)) خرجه مسلم.
أيها المسلمون، وعلى نهج السنة والهدَى سار سلفنا الصالح من صحابةِ رسولنا وأتباعهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين من أهل الحديث والأثَر، فهم بالوحيَين مستمسِكون، وعن غيرهما حائدون، وبذا فازوا بحُسن الثنَا وعظيمِ السيرةِ والهدى، أجمعَت أقوالُهم على ذمِّ البدَع والنهي عنها والتحذير من عاقبَتها وسوء مصيرها.
فهذا صِدّيق الأمّة أبو بكر رضي الله عنه يقول: (إنما أنا متّبِع، وليس بمبتدع، فإن استقمتُ فتابِعوني، وإن زغتُ فقوِّموني)، وفي سنن أبي دواد عن حذيفة رضي الله عنه: (كلُّ عبادة لا يتعبَّدُها أصحابُ رسول الله فلا تعبَّدُوها؛ فإنَّ الأوّل لم يدَع للآخرِ مقالاً).
كُلّيةٌ مُجْمَعٌ عليها، وأصلٌ متَّفقٌ عليه بينَهم رضي الله عنهم، قال أنس رضي الله عنه: (اتَّبعوا آثارنا، ولا تبتدعوا، فقد كُفِيتم)، وينبِّه حبرُ الأمّة ابن عباس رضي الله عنهما على لزوم الاتّباع والحذَر من الابتداع فيقول: (عليكم بالأثر، وإياكم والبدَع، فإنَّ من أحدث رأيًا ليس في كتاب الله ولم تمضِ به سنة رسول الله لم يدرِ ما هو عليه إذا لقِيَ الله عز وجل)، وكان رضي الله عنه يوصي من لقِيَه بتقوَى الله والاستقامةِ والاتّباع وترك الابتداع.
وها هم التابعون لهم من أهلِ الحديث والأثَر يأخذون منهَجَهم ويرتَسِمون خطاهم، فعن غير واحد منهم: "صاحِب البِدعة لا يَزداد اجتهادًا من صلاةٍ وصيام إلا ازدَاد من اللهِ بُعدًا".
واسمع ـ أخي المسلم ـ لجهبذ من جَهابِذة الحديث وعلَم من أعلام السنّة المطهرة، إنّه ابن المبارك إذ يقول: "اعلم أُخَيّ، إنَّ الموتَ كرامةٌ لكل مسلم لقيَ الله على السنة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتَنا وذهابَ الإخوان وقِلّة الأعوان وظهورَ البدَع، وإلى الله نشكو عظيمَ ما حلَّ بهذه الأمة من ذهابِ العلماء وأهلِ السنة وظهور البدع".
ومن محاسِن كلامِ العلماء قولُ بعضهم: "اختلاف الناسِ كلِّهم يرجع إلى ثلاثة أصول، فلكلِّ واحدٍ منها ضدّ، فمن سقَط عنه وقع في ضدِّه: التوحيد وضدُّه الشّرك، والسنة وضدّها البدعة، والطاعة وضدها المعصية". وما أروع كلامَ الجنيد حين يقول: "الطرُقُ كلُّها مسدودةٌ على الخَلق إلا على من اقتفَى أثرَ الرسول ، ولا مقامَ أشرف من مقام متابعةِ الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه".
أيّها المسلمون، البِدعة ما أُحدِث في الدين على خلافِ ما كان عليه النبي والأربعةُ الخلفاء الراشدون، إمّا بالاعتقاد بخلاف الحقّ الذي دلّ عليه الكِتاب والسنّة، وإمّا بالتعبُّد بما لم يأذَن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة، وليس في الدين بدعةٌ حسنة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فقوله : ((كل بدعة ضلالة)) مِن جوامع الكَلِم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدّين، فكلّ مَن أحدث شيئًا ونسبَه إلى الدين ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجِع إليه فهو ضلالة والدين بريءٌ منه، وسواء ذلك في مسائِلِ الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة"، وما أجمل قولَ إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله إذ يقول: "من ابتدَع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمّدًا خان الرسالة؛ لأنّ الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".
عُلماءَ الإسلام ودعاةَ الخير، العِلم أمانة أنتم مطالبون بأدائها وإظهارها، وإظهارُ العلم هو إظهارُ السنة والدّعوة إليها بكلِّ ممكن، قيل للوليد بن مسلم رحمه الله: ما إظهارُ العلم؟ قال: "إظهارُ السنة".
والتنبيه على البدَع سبيلُ الصالحين ومَنهج الصحابةِ والتابعين، وذلك بالحِكمة والموعظةِ الحسنة والموازنةِ بين الحَزم واللِّين، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "ألا وإني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلاّ الله، قد فَنِيَ عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا، لا يرونَ الحقَّ غيره"، وما أروعَ قول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ عند كلّ بدعة كِيد بها الإسلام دليلاً من أوليائه يذبّ عنه وينطق بعلامتها، فاغتَنِموا حضورَ تلك المواطن وتوكَّلوا على الله، وكفى بالله وكيلاً).
وتذكّروا ـ إخوة الإيمان ـ أنَّ السكوتَ من أهلِ العلم عن الإنكارِ على البدَع وأهلها يصيِّرها وكأنَّها سننٌ مقرَّرات وشرائع محرَّرات، قال الأوزاعيّ رحمه الله: "إنَّ السلف رحمهم الله تشتدّ ألسنتهم على أهل البدع وتشمئزّ قلوبهم منهم ويحذِّرون الناسَ بدعتَهم، ولو كانوا مستَتِرين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحدٍ أن يهتِك سترًا عليهم ولا يظهِرَ منهم عورَة، الله أولى بالأخذِ بها وبالتوبة عليها، فأمّا إذا جاهروا بها فنشر العلم حَياة، والبلاغ عن رسول الله رَحمة، يُعتصَم بها على مصِرّ ملحد.
ثمّ إنَّ منهجَ السلف عدمُ الإسراف في إطلاقِ كلِمة البدعة على كلِّ أحد خالَف بعض المخالفات، إنما يصِفون بالبدعة من فعل فِعلاً لا أصلَ له من الشّرع ليتقرَّب به إلى الله جلّ وعلا، فليس كلُّ عاصٍ ومخطِئ مبتدِعًا.
ومَنهج السلف رحمهم الله مع المبتَدِع مناصحتُه وإقامَة الحجّةِ عليه بكلِّ حِكمة ولين، ومتى عاند واستكبَر عن الحقّ وجَب هجرُه إن كانت بدعتُه مكفِّرة، وإن كانت دونَ ذلك فالأصل هو الهَجر إلاّ إن كانت في مجالَسَتِه مصلحةٌ ظاهرة لتبيين الحقّ والتحذير من البدعة، وإلاّ وجب الابتعاد عنه مطلقًا، فكان السّلَف رضي الله عنهم إذ هجَروا المبتدع ترَكوا السلام عليه وزيارتَه وعيادتَه.
ألا وإنَّ مِن هجرِ المبتدعة تركَ النظر في كتبِهم خَوفًا من الفِتنة بها أو تَرويجها بين الناس، إلا لمن كان عنده من العِلم والبصيرة ما يحذَر به من شرِّها.
أيها المسلمون، مِن مفهوم الولاء والبراء في الدين عدمُ تعظيم المبتدِع أو الثناء عليه مطلقًا، فهذا دَأب المؤمنين الصالحين المعتصمين بكتابِ الله المهتدينَ بهدي رسول الله .
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من الذين قال الله فيهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. |