أما بعد: أيها الناس، إن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
ثم اتقوا الله تعالى أيها المؤمنون، واعلموا أنكم غدًا بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم مَجْزِيّون، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وإياكم والتسويف؛ فإن طول الأمل يُنسِي الآخرة، واتّباع الهوى يصدّ عن الحق.
أيها المسلمون، لقد جَبَل الله تعالى النفوس على الفطرة، وصيّرها مُنجذِبة إليه، ومن رحمته وحكمته أن جعل الشريعة داعية إليها، والسعادة والثواب لمن سار عليها، ومن ذلك الارتباط بين الذكر والأنثى بالزواج.
عباد الله، لا يجادل عاقل في أهمية الزواج وفضائله، ومنزلة النكاح وفوائده، وأنه السبيل الطَبَعِي لاستقرار النفوس، وسَكَن القلوب، واستقرار المجتمع ونمائه، فهو الطمأنينة والسَّكَن، وبه تنتظم الحياة، وفي بحره تتدفّق أنهار المشاعر، وفي حِمَاه يَنْسِلُ الجيلُ الصالح، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
بالزواج يَنشُر الطُّهْرُ ضياءَه، ويُسْدِل العَفَافُ رداءَه، ويحصل الإحصان لمن استطاع الباءة، عندها تنحسِر المنكرات، وتظهر الخيرات والبركات، ويعيش المجتمع رفاهية الأمن الخلقي ورغد العيش الاجتماعي. لقد جعل الله تعالى الزواج فضيلة، وجعله سنة أنبيائه فقال سبحانه مخاطبًا خليله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
لذا ولأجل ما فيه من المصالح العظيمة فقد رَغَّبَت شريعة الإسلام في الزواج، وحثّت على تيسيره وتسهيل طريقه، ونهت عن كل ما يقف في سبيله، أو يعوق تمامه، ويكدّر صفوه، فأمر الله تعالى به في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، وقال المصطفى : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفَرْج...)) الحديث، رواه البخاري ومسلم. وقد أمر الله تعالى في كتابه بتزويج الأكفاء، ونهى عن عَضْل النساء، وبيّن في الكتاب والسنة الحقوق والواجبات بين الزوجين، داعيًا لتكوين الأسرة المسلمة واستصلاحها، فهي أساس المجتمع الذي يقوى ويشتدّ بقدر تماسك وترابط أسره.
أيها المسلمون، إن كل من يهمّه أمر مجتمعه وأمّته، ويحبّ الخير لأهل ملّته يلتمس الوسائل المفيدة لتنمية هذا الجانب، والسعي في إنجاح الحياة الزوجية لكل مسلم، والتحذير من كل ما يعيق مسيرة الزواج، كما يُقلِق الغيورَ ما يرى من فشل بعض الزِّيجات، أو حين يرى أشواك المشاكل الأسرية تنبت في بعض البيوتات؛ لذا كان لزامًا على كل عاقل أن يأخذ بالوسائل المفيدة لحياة زوجية سعيدة بإذن الله عزّ وجل.
عباد الله، الحديث عن الزواج حديث ذو شُجُون، وحسبنا في هذه الوقفة أن نعرّج على بعض الظواهر التي تسبق الزواج ولها أثر غير حسن على مسيرة الحياة؛ نصحًا للمسلمين، وتنبيهًا للغافلين.
فأوّلها ـ رعاكم الله ـ ظاهرة تأخير الزواج لدى الذكور والإناث بحجة إكمال الدراسة، أو الحصول على الوظيفة، أو القدرة المالية، أو عدم الرغبة في الارتباط المبكّر، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا كله من كيد الشيطان وحبائله، يُذْكِي ذلك ما تُحْشَى به أدمغة الناس والشباب خاصّة من لَوْثَات الأفلام والمسلسلات والصحف والإذاعات والمجلاّت والقنوات، والتي أورثت رُكامًا هائلاً من التصوّرات الخاطئة عن الحياة الزوجية، وأفسدت أخلاق الناس، وقرّرت في نفوس مُتَلَقِّيها مبادئ مَغْلُوطَة، وقلبت المفاهيم، وفتحت على الناس باب شرٍّ عظيم.
إن تأخير الزواج مخالف للسنّة الشرعية كما هو مخالف للسنّة الفِطرية، وقد قرّر المتخصّصون في علم الاجتماع والحياة أنّ الزواج المبكّر هو أنجح الزِّيجات حتى ولو تعثّرت الظروف المادية، وأنه سبب رئيس لاستقرار الصحة النفسية والجسدية، وأن النبوغ والذكاء من الأطفال والصحة وانعدام الإعاقات الجسدية يكثر من الزِّيجات المبكّرة، هذا بالإضافة إلى اكتمال الدين والعَفاف وحصول الإحصان في بداية الحياة، وأن الزواج كان عاملاً رئيسًا في نجاح الكثيرين في حياتهم العملية.
وحينما تُفْتَعَل الحواجزُ والمعوّقاتُ أمام هذه السنّة الفِطرية فإن أثر ذلك يكون وبالاً على المجتمع بأسره، إنه لا تُعارض حقيقة بين الزواج ومتطلّبات الحياة الدنيوية، ذلك أنه جزءٌ من الحياة الطبيعية، والذي لا يجوز أن يُربَط بالمعوّقات والعَراقِيل الموهومة أو المُفْتَعَلَة من حَمْقَى البشر. كما أنّ المسلمين تجاه هذه السنّة الفِطرية الشرعية يجب أن تكون ثقتهم بالله تعالى، ويقينهم به لا بالمادّيات، وقد قال الحق سبحانه: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((ثلاثة حقّ على الله عَوْنهم: المجاهد في سبيل الله، والمُكاتَب، والناكح يبغي العَفَاف)) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
وإذا غالى في المهور والشروط بعضُ السفهاء ممن اتخذوا بناتهم سِلَعًا كالرَّقِيق يُتاجِرون بها، ويُساوِمون عليها؛ ففي بقيّة النساء غُنْيَة. وكم من بيوت تتمنّى الكُفْء الذي يُسعِد ابنتَهم، ويحفظها بدينه وحُسن عِشرته، ويرضون من المَهْر باليسير، مُقتَدِين في ذلك بالنبي الذي قال: ((إن من يُمْنِ المرأة تيسير خِطْبتها وتيسير صَدَاقها)) رواه أحمد وابن حبان والحاكم بسند حسن، وفي لفظٍ عند أحمد: ((أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)). إن إغلاء المهور، والمُباهَاة بها، وتقويم الخاطب بمقدار ما قدّم من مَهر؛ لهو صِغَرٌ في النفس، وانحدار في التفكير، ونقص في العقل، كما أن إرهاق الخاطب بالمهر الكثير، واشتراط الهدايا الكثيرة لأقارب الزوجة وأباعدها لهو جشع وطمع وانتهازية تورث الضغائن، وتُرهِق بالديون، وتُعيق مسيرة الزواج في المجتمع، ويسبّب بقاء الفتاة مدة طويلة بلا زواج، حتى تمتلئ البيوت بالعَوانِس، وهذا من صور العَضْل الذي حرّمه الله تعالى.
كما أنّ من أسوأ صور العَضْل حَجْر المرأة على أحد أبناء قرابتها، فلا يسمح لها وليّها بالزواج من غيره، ولو بقيت عانسًا طول حياتها! وهذه جريمةٌ كبيرة وأنانية مُفرِطة، تراعي أعرافًا بالية، وتخالف الشريعة الخالدة، إن المرأة لا يجوز أن تُجبَر على نكاح مَن لا تريد، وولاية أبيها عليها ولاية مُصلِحة لها وحفظ وصيانة وأمانة لا ولاية تسلّط وتجَبّر، وقد قال النبي : ((لا تُنكَح الأيّم حتى تُسْتَأمَر، ولا تُنكَح البِكْر حتى تُستأذَن))، فقالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) رواه البخاري ومسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس لأحد الأبوين أن يُلزِم الولدَ بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقًّا، وإذا لم يكن لأحدٍ أن يلزمه بأكل ما يَنْفِرُ منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه؛ كان النكاح كذلك وأولى، فإنّ أَكْلَ المكروهِ مَرَارة ساعة، وعِشرة المكروه من الزوجين على طولٍ تؤذي صاحبه، ولا يمكنه فراقه" انتهى. فإجبار المرأة على من لا تريد طَمَعًا في ماله أو جاهه أو بسبب قرابته ظلم وحرام، فعلى الأولياء إدراك ذلك. كما أنّ على الفتاة أن تتفهّم مشورة وليّها في القبول والرفض، وأن تكون المصلحة مَناط الاختيار.
أيها المسلمون، إن على الأولياء مسؤولية عظيمة تجاه الخاطب، انطلاقًا من قول النبي : ((والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته)) رواه الشيخان. ولأنها أمانة يُسأل عنها يوم القيامة أدّاها أم ضيّعها، ولأن الفتاة غالبًا تعتمد على معرفة وليّها ومشورته، فعليه أن يتقي الله تعالى، وأن يستقصي في استظهار حال الخاطب ومعرفة كفاءته، فكم من امرأة صالحة عفيفة بُلِيت بزوج فاسقٍ لا يصلّي، أو يشرب المسكرات، ويُقارِف محرّمات، أو سيّء العشرة كَرِيه الخُلُق، ولا ذنب لها سوى تقصير وليّها وإهماله في السؤال عن ديانة الخاطب، مكتفيًا بالرضا بظاهر الحال، أو الثقة في أهل الخاطب وعشيرته! إن الكفاءة بصلاح الديانة وحسن الخلق، وقد قال النبي : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلُقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي وابن ماجه.
وليعلم من جعل همّه السؤال عن الجاه والمنصب والمال، وتغاضى عن سوء الديانة؛ أنّ من خان الله ورسوله لا يمكن أن يؤتمن على ابنته، ويقال ذلك للخاطب أيضًا، فكم من رجلٍ اشترط كل الشروط الدنيوية في مخطوبته، ولكنّ الدين كان آخر اهتماماته، بل ربما ليس في حساباته، ثم يكتشف أنها لا تصلح زوجة؛ لنقص دينها وخُلُقها! وقد روى البخاري ومسلمٌ أن النبي قال: ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَت يداك)). وليعلم الخاطب أن المُقَصِّرَة في حق الله لن تقوم بحق الزوج والأولاد على الكمال.
ويتبع هذه المسألة تنبيه المستشار والمسؤول عن الخاطب أن يتقي الله تعالى فيما يقول وفيما يشير به، فقد تأخذ بعضَ الناس الحَمِيّةُ أو العَجَلةُ فيبالغ في الثناء والمدح أو في الذم والقدح، وهو لم يحط علمًا بما استشير فيه، يظن ظنًّا وليس بمستيقِن، فهذا غشٌ وخيانة للأمانة، وقد قال النبي : ((المستشار مُؤتَمَن)) رواه أبو داود بسند صحيح.
أيها المسلمون، لقد أُحيطت بعض حفلات الأعراس بهالةٍ من التكاليف والمبالغات والمخالفات والمنكرات، وتضخّمت حتى أصبحت عَقَبة كَأْدَاء أمام إتمام الزواج، بل تجاوزت تكاليفها قيمة المهر أضعافًا. وتُرِك القِياد فيها للنساء والسفهاء، وتعظم المصيبة إذا صحبتها المنكرات والمعاصي، فأيّ بركة تُرجَى، وأيّ توفيق يُؤمّل إذا استُفْتِحَت الحياة الزوجية من أوّل ليلة بالمنكرات، ومعصية ربّ الأرض والسماوات، الذي يملك وحده التوفيق، وبيده سبحانه القلوب يصرّفها كيف يشاء؟!
إن الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم، وجَلْب المغنّين والمغنّيات بالمعازف وآلات الطرب، وتضييع الصلوات، وكشف العورات بالذات بين النساء، حيث التعرّي في لباس الحفلات، والتصوير العلني والتصوير الخفي؛ كل ذلك يُعدّ كفرًا بالنعمة لا شكرًا، وتمرّدًا وبَطَرًا لا فرحًا، ناهيك عن الإسراف والمباهاة في التجهيز والحفلات، لماذا كل هذا؟ ألا يتمّ الفرح إلا أن يُحاط بالمخالفات الشرعية، وإن لم يوفّق مخذول فليعلم من أين أُتي.
إن المعاصي والذنوب تهلك الدول، وتزلزل الممالك، فكيف بالبيوت الصغيرة؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ [التوبة:109].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|