أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، من حكمة الربّ جلّ وعلا أنْ كَوّن بني الإنسان من ذكر وأنثى إلا ما استثنى الله من عيسى عليه السلام، فكان من أنثى بلا ذكر؛ آية ومعجزة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فتأمّل قوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً، فجعل الله جنس البشر من الذكر والأنثى، فَبِهِ امتداد حياة بني الإنسان.
ولذا جاءت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله لترغّب في النكاح أوّلاً، لتأمر به وترغّب فيه، وتبيّن ما يترتّب عليه من الخير والثواب العظيم، قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [النور:32]، وقال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. وأخبر تعالى أن الزواج من سُنن المرسلين، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]. وامتنّ على زكريّا عليه السلام بقوله: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]. ونبيّنا ردّ على أناس أرادوا الزهد بترك الزواج فقال: ((لكنّي أتقاكم لله وأخشاكم له، أما إني أصلّي وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي))؛ لأنّ بانقطاع النكاح وتعطيله سبب لانقطاع نَسْل بني الإنسان.
وفي هذا النكاح الشرعي من المصالح والفوائد ما الله به عليم، ولا يستطيع إنسان أن يُحصي جميع فضائله ومزاياه، لكن من ذلك: صَوْن النفس عن المحرّمات، والحَيْلُولة بين العبد وبين قضاء الغَرِيزة فيما حرّم الله، فإنّ الله جلّ وعلا رَكّب في الرجال هذه الغَرِيزة ومثلها في النساء أيضًا، إذن فهذه الغَرِيزة لا يَرْوِيها من جهة الجنسين إلا النكاح المشروع الذي أذن الله فيه وأمر به، فإنه الذي تُرْوَى به الغَرِيزة حقًّا، أمّا ـ والعياذ بالله ـ الطرق السيّئة وسلوك الطرق المُلْتَوِية فهذا ضرر وبلاء، نسأل الله السلامة والعافية، وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32].
ونبيّنا وجّه الشباب إلى هذا الأمر فقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءَة فليتزوّج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج))، فبيّن الحكمة العظيمة من هذا، وأنه غضّ للبصر عن التطلّع إلى ما حرّم الله، وتحصين للفرج وحفظ له من الانطلاق في الشهوات المُرْدِية، مع ما يترتّب عليه من بناء الأسرة والمساهمة في إصلاح المجتمع، والقيام بالحقوق والواجبات، وفي الحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
ومن أهداف هذا النكاح ما يحصل للزوجين من الأُنس والراحة، فإنّ الله جعل المرأة سَكَنًا للرجل، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فسَكَنُ الرجل إنما هو لامرأته التي أخذها بهذا النكاح الشرعي، فهو يطمئنّ إليها ويأتمنها، ويرعى فراشه الصحيح، ويعدّها شريكته في حياته، بخلاف العلاقات الجنسية الباطلة، فإنما هي مجرّد قضاء وَطَرٍ وبينهما من الشِّقاق والخلاف ما لا يعلمه إلا الله، وقَلَّ مُفسِد إلا وهو يُبغِض تلك الخبيثة ويكرهها، أما الزواج الشرعي فإن الله جعله سببًا للتآلف بين الزوجين، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ومن أهدافه أيضًا حصول الولد، فحصول الولد نعمة من الله، وتحقيقٌ لأُمنية محمد القائل: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة))، جاءه رجل من أصحابه خطب امرأة أعجبته، فقال: يا رسول الله، خطبت تلك المرأة ـ وذكر من جمالها وحسنها ـ غير أنها لا تَلِد. قال: ((تزوّج غيرها))، فكرّر عليه، فقال: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة)).
وأخبر عن زكريّا عليه السلام في دعائه لربّه أنه قال: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، قال الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89، 90].
ومع كون الولد زينة في الدنيا كما قال جلّ وعلا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، ومع هذه الزينة فهذا الولد تقرّ به عين أبيه إن رَبّاه على الخير والتّقى، فيكون عونًا لأبيه على مُهمّاته، ويشدّ الله به أَزْرَه، وتقرّ به عينه، وتمتدّ به حياته بعد موته، هذا الولد إن عاش فنعمة من الله تعالى على أبيه، يدعو لأبيه بعد موته، ويُذكَر بالخير بعد موته، يقول : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
هذا الولد والزوجة والإنفاق عليهما مما يرفع به الله درجات العبد، ففي الحديث يقول لسعد بن أبي وَقّاص: ((إنك لن تُنفِق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت عليها، حتى ما تضع في فيّ امرأتك)).
وبيّن أن الرجل ينال الثواب العظيم مع تلذّذه بما أباح الله له، فيقول : ((وفي بُضْع أحدكم صدقة))، أي في فَرْجه، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)).
وتربيته للبنين والبنات وإعدادهم الإعداد الصحيح بتوفيق الله أجرٌ يناله بعد موته، فإن من دعا إلى الله كان له من الأجر العظيم وأجر من انتفع بدعوته إلى يوم القيامة، فالأولاد إذا رُبّوا على الخير، ووجُّهِوا التوجيه السليم فكل عمل صالح يفعلونه فإنّ لأبيهم مثل ذلك في الأجر إن قصد بذلك وجه الله والدار الآخرة.
أيها المسلم، وفي هذا الزواج ارتباط الأسر بعضها ببعض، وتآلف القلوب فيما بينها، فقد جعله الله سببًا للارتباط، واتصال الأسر بعضها ببعض، كل ذلك من حكمة الله العظيمة وفضله وكرمه وجوده وإحسانه.
أيها الشاب المسلم، إن الزواج نعمة من الله، ومن تَهَيّأ له في أول شبابه فنعمة من الله، نعمة من الله أن ينشأ الشاب عَفِيفًا صَيِّنًا، يعجب ربّك إلى شاب ليس له صَبْوَة، ينشأ عَفِيف الفرج، ينشأ عظيم الهمّة، ينشأ في أخلاق وطهارة وعِفّة، فيبني حياته على الخير والتُّقَى، فتلك النعمة العُظمَى، بخلاف ـ والعياذ بالله ـ من تكون غَرائزه في المنكرات والفساد والبلاء والأمراض المُعدِية والفساد العظيم، فيضطرب قلبُهُ، ولا تقرّ له عين، بل هو دائمًا من خبيثة إلى خبيثة، ومن فاجرة إلى فاجرة، هذا ـ والعياذ بالله ـ عين التّشتّت، وذهاب الدين والدنيا، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.
أيها الشاب المسلم، إن الزهد في الزواج ليس من أخلاق المسلمين، فمن أخلاق المسلمين المُبادَرة لهذا الأمر، والحرص عليه، والسعي الدؤوب في تحصيله، والاستعانة بالله، والتعفّف عن محارم الله، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، قال بعض السلف: وَعْدٌ لمن عَفّ عن محارم الله أن ييسّر الله له سبل الزواج، وأن يعينه على ذلك، ويهيّئ له من أمره رَشَدًا.
أيها الشاب المسلم، قد تُعلّل فتقول: عَقَبات كَأْدَاء، ومصارف كثيرة، وتبعات ومسؤوليات، من لي بتحمّل هذه المشاكل؟ وأين لي هذا المهر؟ وأين لي هذه التكلفات؟ وأين، وأين؟ فتحسب وتعدّ فتبقى حائرًا، وتقول: هذا الزواج مشكلة عُظمَى وبليّة لا أستطيع أن أجاوز عَقَباتها، ولا أستطيع تحمّلها تحمّلها. نقول: يا أخي، حقًّا إنها مشكلة، ولكن من استعان بالله، والتجأ إلى الله، وعَفّ عن محارم الله، وعلم الله ذلك من نيّته فإن الله سيفتح له باب الرزق، ويهيّئ له الأمور، وييسّر عليه العسير، فيقول : ((ثلاثة حقّ على الله عَوْنُهم))، ذكر منهم: ((الشاب يتزوج يريد العَفَاف))، يعني: يستدين يريد العَفَاف، فإذا استدان دَيْنًا في مَعْقول وحدود قدرته من غير سرف وأراد بذلك عِفّة نفسه فإن الله يعينه على قضاء دَيْنه، وييسّر له الأمور، ويفتح له من عنده باب رزق، والله يرزق من يشاء بغير حساب، المهم الجدّ في الأمر، المهمّ العِفّة عن محارم الله.
ولأن كان المجتمع المسلم أيضًا مطالبًا بالتعاون في هذا الجانب وبذل كل سبب، وأن كل فرد من المسلمين مطلوب بأن يسعى في التيسير والتسهيل وتذليل الصعاب أمام شبابنا وشابّاتنا، فالرجل يُحِبّ لبناته أن يراهُنّ متزوّجات قد صانهنّ الله بالزواج، وبَرّهنّ بالصالح من الأولاد من ذكور وإناث، والرجل يُحِبّ أن يرى أبناءه متزوجين قد يسّر الله أمورهم، وهَيّأ لهم الأمور، إذن فالكل مطالب بالتيسير والتسهيل، والكل مطالب بأن يكون عونًا لهذا الشاب على الخير. عندما يتقدّم شابٌّ تعلم أخلاقه، وتعجبك سيرته وأخلاقه واتّزَانه وأهليته للزواج إذن أنت مطالب ـ يا أبا الفتاة ـ أن تُيسّر الأمور، ولا تحمل على الشاب ما لا يطيق، ولا تطالبه بما لا يستطيع، واجعل الأمر يسيرًا، فخيرهنّ أهونهنّ تكلفة، خيرهنّ أيسرهنّ مهورًا، فحاول [التيسير]، وحاول أن تبذل جهدك حتى تُزَوَّج هذه الفتاة، ويزوّج هذا الشاب، فأنت بهذا أحسنت لابنتك، وأنت بهذا أحسنت لابن أخيك الشاب المسلم، فأعنت الجميع على الزواج، وذلّلت الصعاب، ولم تجعلها مُمَاراة ومفاخرة ولا مُساوَمة، إن البعض قد يعدّها مفاخرة، يفخر بليلته وبوليمة عرسه، ويفخر بالحفلات، وتُنفَق عليه الأموال الطائلة التي قد تخرج من دور الحلال إلى دور التبذير المحرّم. إن المجتمع المسلم مطالب بأن يكون هذا التعاون بين أفراده، لا من جهة أولياء الفتيات، ولا من جهة الأزواج، أن يكون الكل بينهم تعاون وتفاهم وتساعد وحرص على الخير.
إن التفاخر بالولائم، إن التفاخر بالحفلات، إن التفاخر بهذه الأمور ليست ـ والله ـ من شريعة الإسلام، ليست من هدي الإسلام، الزواج مطلوب، والإعلان له مطلوب، والوليمة له مطلوبة، والدعوة لحضوره مؤكّد إجابتُها، لكن ليلتزم المسلمون العدل في أمورهم، ولا يكن للنساء السيطرة على هذا الفِكْر، وإنما الرجال العقلاء الذين يحبون لفتياتهم التوفيق، ويحبون لأبنائهم كذلك، فالمجتمع أيضًا مطلوب منه التعاون في هذا المجال؛ لأن التعاون بيننا يحقّق ولاية بعضنا لبعض: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فمن ولايتك لأخيك المسلم، من موالاتك له أن تسعى في إيصال الخير، فالفتيات أمانة في أعناق الآباء، حرام على الأب أن يَزُجَّ بالفتاة لمن لا يثق بدينه وأمانته، وحرام عليه أن يمنعها الكفء المناسب، وحرام عليه أن يُساوِم على زواجها، ويجعلها منزلة وميزانًا يزن به من تقدّم، بكثرة مال وكثرة وليمة أو نحو ذلك.
إن مجتمعنا المسلم إذا تأمّل هذا كل منا بذل جهده، وكل منا نصح أخاه، وكل منا كان سببًا في إيجاد الأمور الميسرة، فإن ذلك عنوان خير، والمطلوب منّا تشجيع من تكون هذه صفاته، أما المفاخرات والخروج عن المعقول ـ فيا إخواني ـ ضرره عظيم، نفقات طائلة، وقد يتحمّلها بعض المُقِلّين فيتحمّلون في ذممهم ما لا طاقة ولا قدرة لهم بوفائه، وقد تجود النفوس الغنيّة بالأموال في هذا المجال، ولو طَلَبَ فقيرٌ أو محتاجٌ منهم شيئًا لبخلت النفوس، وشحّت النفوس، وانقبضت الأيدي، لكن في سبيل السَّفَه والأمور الكثيرة تجود النفوس بهذه الأموال. فإن مجتمعنا يجب أن يتحلّى بالصدق والوفاء، يجب أن يتحلّى بالتعاون، فهي قضايا لا يمكن فرضها على كل أحد، لكن إذا كان في المجتمع حبّ الخير للجميع والتعاون على البرّ والتقوى فإن هذا يجعل الله فيه سببًا مباركًا، أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يحفظ شبابنا وفتياتنا، وأن يصلح حالنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يجعلنا ممن يسعى في الخير جهده، وأن نكون قدوة صالحة وأسوة لغيرنا، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|