وبعد: قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَـٰلَ ٱلدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:4-8].
أخبر الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه كتب على بني إسرائيل وأوحى إليهم في التوراة أنهم يفسدون في الأرض أي: في أرض الشام وفلسطين مرتين بالمعاصي والذنب والظلم والبغي الكبير، وتوعدهم الله تعالى بأنه سيرسل عيلهم في كل مرة يفسدون فيها في الأرض المقدسة من يسومهم سوء العذاب جزاءً وفاقًا.
وقد وقع من اليهود الإفساد في الأرض مرات، وفي كل مرة يعقب إفسادهم إهلاك الله تعالى لهم على يد عبادٍ أولي بأس شديد.
فقد أفسدوا بقتل زكريا عليه السلام، فأرسل الله عليهم جالوت وجنوده وكانوا كفارًا، فقتلوا منهم وسبوا أولادهم وخربوا بيت المقدس، ثم إن بني إسرائيل تابوا وأصلحوا وعادت لهم السيادة على بيت المقدس.
ثم إنهم نسوا ما جرى عليهم فعادوا إلى الكفر والظلم، فسلط الله عليهم ملوك الفرس والروم، فاحتلوا بلادهم وأذاقوهم العذاب وخربوا بيت المقدس، وظل بيت المقدس في يد نصارى الروم قبل بعثة النبيّ بثلاثمائة سنة، حتى استنقذه منهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وعلاقة بني إسرائيل بالأرض وبيت المقدس تبدأ عندما هاجر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى الشام واستقر فيها إلى أن توفاه الله تعالى فيها هو وابنه إسحاق عليهما السلام، وكان فيها يعقوب (إسرائيل) عليه السلام، وهو الذي بنى المسجد الأقصى إلى أن خرج مع أبنائه الأسباط إلى مصر لما صار ابنه يوسف عليه السلام على خزائنها، وظلت فيها ذريتهم حتى أمرهم موسى عليه السلام بالخروج من مصر إلى بيت المقدس لقتال العمالقة الجبارين الذين آل إليهم ملك الأرض المقدسة.
لقد اختلف المفسرون في تعيين الإفسادين اللّذين عناهما الله تعالى في الآيات الكريمة، وقال بعضهم إن الإفساد الثاني لم يقع بعد، وإنما سيكون في آخر الزمان، وسيهلكهم الله تعالى كما أهلكهم في الإفساد الأول؛ لأن الله تعالى قال: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104] أي: إذا جاء موعد الإفساد الآخر والإهلاك الأخير جمع الله بني إسرائيل من أقطار الأرض واستقروا بالأرض المقدسة ليلقوا هلاكهم فيها، ولما عاد بنو إسرائيل للإفساد زمن نبينا محمد فكفروا به أهلكهم الله على يده .
وعلى كل حال فإن الله تعالى توعدهم بالإهلاك كلما أفسدوا فقال سبحانه: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [الإسراء:8]، أي: إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الإهلاك. وقال سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف:167].
وقد أخبر النبي أنه في آخر الزمان ستقاتل أمته اليهود، المسلمون شرقي نهر الأردن، وهم غربيّه، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله، إلا شجر الغرقد، فإنه من شجر اليهود، ولأجل هذا فهم يكثرون من زراعته. والحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
هذا وقد ظل المسجد الأقصى بيد المسلمين منذ الفتح العمري حتى استولى عليه الصليبيون وقتلوا من المسلمين ستين ألفًا، ودخلوا المسجد، واستولوا على الأموال، ونصبوا الصليب على المسجد، ودقوا فيه النواقيس، وأشركوا فيه بالله تعالى، حتى استنقذه الله من أيديهم على يد القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وكان ملكًا صالحًا صوامًا قوامًا، وكان قلبه يتفطر على المسجد الأقصى، ولم يفتأ يحرض المؤمنين على القتال ويعد العدة حتى انتصر المسلمون بفضل الله في موقعة حطين سنة 583هـ، وكان يومًا مشهودا، طهر فيه المسجد الأقصى، وارتفع منه الأذان والتوحيد، وقتل من الصليبيين عشرات الآلاف، وأسر عشرات الآلاف، حتى رخص ثمن الأسرى، وصار الفلاح من المسلمين يربط بخيمته عشرة من الأسرى وبيع النعل بالأسير، إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7].
ثم تخاذل المسلمون وحرصوا على الملك، وتقاتل أولاد صلاح الدين على الملك من بعده، حتى وصل الأمر إلى أن تنازل الملك الكامل ابن أخ صلاح الدين عن بيت المقدس للصليبيين مقابل أن يتنازلوا هم عن بلاد الشام الأخرى، وكان ذلك سنة 626هـ، وعاد المسجد الأقصى إلى الصليبيين حتى قاتلهم الملك الصالح أيوب ابن أخ الملك الكامل سنة 642هـ، واستنقذه من أيديهم بعد 16 عامًا، وظل في يد المسلمين من ذلك التاريخ حتى سقط في يد اليهود سنة 1387هـ، وله إلى الآن أربعة وثلاثون عامًا أسيرًا في أيديهم، ولكن نصر الله آت لا محالة.
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55].
ولكن هذا الوعد بالاستخلاف والتمكين مشروط بأن يمكن المسلمون لدين الله في قلوبهم، وأن يمكنوا لدين الله في بيوتهم ومجتمعاتهم.
نسأل الله تعالى أن يمكن لدينه في الأرض وأن يفتح له قلوب الناس. اللهم آمين.
|