أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ لله في هذا الكون سننًا لا تتبدّل ولا تتغيَّر، سُنَّةَ ٱللَّهِ فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
فمِن سننه جلّ وعلا أن جعل هذه الدنيا دُوَلاً، يومٌ لك ويومٌ عليك، وهذه الدنيا تُضحِك وتُبكي، تضحِك أقوامًا وتبكي آخرين، فُتبكي من أضحكته، وتضحِك من أبكَته، ولا ينجو من خداعها وغرورها إلا المؤمنون حقًا الثابتون على إيمانِهم، لا تزيدهم السّرّاء إلا شكرًا لله، ولا الضرّاءُ إلا صبرًا ورضاءً بقضاء الله، وَتِلْكَ ٱلأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ [آل عمران:140]، مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً [النحل:97].
ومِن سننِه جلّ وعلا أنَّ الحقّ والباطلَ في هذه الدنيا في صراعٍ دائم مستمِرّ، ليستبينَ مَن هو صادقُ الإيمان قويّ اليقين، مِمّن يعبُد اللهَ على حرف، فإن أصابه خيرٌ اطمئنَّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلبَ على وجهِه.
مِن سننِه تعالى أن ابتلى عبادَه المؤمنين، ابتلاهم بأعدائِهم ليظهرَ مَن كان صادقًا ثابتًا على الحقّ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ [محمد:31]، وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، وقال: مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [آل عمران:179].
مِن سننِه تعالى أنّ هذا الدينَ الإسلاميّ دينٌ سيظلّ إلى أن يرِث الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، فهو خاتمة الأديانِ كلِّها، فسيظلّ إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها، وهو خير الوارثين، وعنه قال: ((ولا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا مَن خالفهم حتى يأتيَ أمر الله)). فأيّ قوةٍ مهما عظُمت على وجه الأرض لن تستطيعَ زحزحةَ هذا الدّين ولا القضاءَ عليه، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ [الحجر:9]، وقال جلّ جلاله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف:8]. كم تعرَّضت الأمّة لحملاتٍ من أعدائها على اختلاف القرون، ولكن لا يزال هذا الدينُ ظاهرًا قويًّا، مَن تمسَّك به ودعا إليه ورفع رايتَه فالعزُّ والتوفيق من الله له، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [غافر:51]، وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [الصافات:171-173]، ولكن على المؤمنِ أن يأخذَ بأسباب النّصر والتمكين، وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلأمُورِ [الحج:40، 41]، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال: فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21].
مِن سننِه تعالى أنّه إذا أنعمَ على قومٍ نعمةً فإنّه تعالى لا يزيلها عنهم حتى يكونوا هم السبَب في ذلك، ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
ومِن سننِه تعالى أنّه عرض التوبةَ على العباد، ودعاهم لأن يتوبوا إليه وينِيبوا إليه، ووعدَهم: إن تابوا إليه تاب عليهم، ومحا خطاياهم، وغفرَ زلاتِهم، وبدَّلهم بالسيّئات إحسانًا: إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحًا فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:70].
أمّة الإسلام، إنّ عدوَّنا عندما يتسلَّط على أرضِنا أو على ديننا ونعمتِنا إنّما ذاك بسببٍ من قبل أنفسِنا، وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فمِن أنفسنا أُصِبنا، فعَودًا إلى دينِنا وتمسُّكًا بإسلامنا والتجاءً إلى ربِّنا وخضوعًا ودعاءً لله، فإنّه تعالى يجيب دعوةَ الداعي إذا دعاه، وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
أيّها المسلمون، إنَّ الأمَّة الإسلاميّة في أمسِّ الحاجة إلى الرّجال المخلصين الصادقين الذين آمنوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًا رسولاً، إلى رجالٍ مخلصين لله، مخلصين لشرعِه، ثم مخلصين لقضايا أمَّتِهم، الإخلاصَ الذي يؤثِّر العملَ، الإخلاصَ الصادق الذي يرى المسلم فيه ضرورةَ الدفاع عن دينِه، ثمَّ الدفاع عن أُمّة الإسلام، الإخلاص لله، ثمَّ الإخلاص لوطنِ الأمّة أن يُصاب بأيِّ مُصيبة فهو يَرى إخلاصًا لله قَبل كلِّ شيء، ثمَّ إخلاصًا لهذه الأمّة أن تُؤتي الأمّة من قِبَله بأيّ وسيلة، فما منَّا إلا على ثغر من ثغورِ الإسلام، اللهَ اللهَ أن يُؤتَى الإسلامُ مِن قِبَله.
كلُّ مسلمٍ فبَلدُ الإسلام أمانةٌ في عنُقه، يستشعر فضلَ بلدِ الإسلام وحمايته والدفاع عنه بكلِّ ما أوتي من سبيل، قولٍ أو فعلٍ، لأنَّ ذلك واجبٌ عليه، فبلادُ الإسلام أمانةٌ في أعناق الأمّة، لا يفرِّط في ذلك أو يضعُف إلا من ضعُف إيمانه.
أيّها المسلمون، حيالَ الفتَن والمصائب الأمّة بأمسّ الحاجة إلى علماء ذوي فضلٍ وإيمان و[قوّة] ورؤية بصيرة للأحداث، يبصِّرون الأمّة، ويُجلّون عنها الغمّة، يكشِفون عنهم آثارَ الفتنة والضلال، ويبصِّرونهم بالحقّ ليخلُصوا من الفتَن بعلمٍ وبصيرة، فهم يضيؤون البصائر للأمّة أمامَ الفتَن المضطرِبة حتى تكون الأمّة على بصيرة. فذوو العلم والفضل الذين منحهم الله علمًا نافعًا وبصيرة ناقدة يتصوّرون بها الأشياء حقَّ تصوّرِها، ويجلُونَ عن الأمّة كلَّ ما التبس عليهم بنور العلم والهدى ليكونَ الناس على بصيرة من أمرهم.
هُم بأمسّ الحاجة إلى دعاةٍ صادقين، دعاة مخلصين، دعاةٍ يبصّرون الناسَ بكتاب الله وبسنّة محمّد ، يعرضون تعاليمَ الإسلام كما أراد الله، بعيدًا عن الإفراط والتفريط، وإنّما دعاةٌ على عِلمٍ وبصيرة، يضَعون الأمورَ موضعَها، ويعالِجون القضايا على ضوءِ الكتاب والسنّة، من غيرِ خروجٍ عن المنهَج القويم، بَل منهجُهم منهج واضحٌ يتّبعون فيه كتابَ الله وسنَّةَ محمّد ، قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. دعاةٌ صادقون مخلِصون، دعاة ناصحون وهداة إلى الخير، يهدون النّاس ويبصّرونهم ويحاوِلون إزالةَ الشبَه التي ربّما علقت بأذهان بعضِ الناس من غيرِ تصوّرٍ لها صحيح.
الأمّة بحاجةٍ إلى أهلِ تربيةٍ وتعليم، لكي يثقِّفوا أبناءَ الأمّة، ويبصّروهم ويرشِدوهم إلى الطريق المستقيم، فأبناءُ الأمّة من ذكورٍ وإناثٍ أمانةٌ في أعناق المعلّمين والمعلّمات، اؤتُمنوا على تربيتِهم وتوجيهِهم، فحريٌّ بهم أن يوجِّهوا الأمّة التوجيهَ السليم، وأن يأخُذوا بأيديهم للخير، وأن يرسُموا لهم الطريقَ السوِيّ الذي يسيرون عليه، ليسلَموا من تأثيرات بعض الإعلام الجائِر، وبعض الآراءِ المضلِّلة، وبعضِ الأفكار البعيدة عن الخيرِ والهدى.
الأمّة أيضًا بحاجةٍ ماسّة إلى جنديٍّ مسلم مخلِص في أعمالِه، يرى أنَّ الدفاع عن بلد الإسلام دين وشرفٌ وعزّ وكرامة، وأنَّ النيةَ الصادقة إذا صحِبت عملَه صارَ من المجاهدين في سبيل الله، جنديّ مسلمٌ إن كان في ميدانِ القتال رأيت الإخلاصَ والتفاني، وإن كان في الثغور رأيتَ الجدّ والصدقَ والعزيمة، ينتسِب إلى بلدِ الإسلام وقوّة المسلمين، ينتسِب إلى بلد الإسلام وتحتَ مظلّةِ القيادةِ المسلمة، فهو ينبري بالدفاع لله جلّ وعلا قبلَ كلّ شيء، يرجو ثوابَ الله، ويطمَع فيما وعَد الله به المجاهدِين، لا يثنيه عن إخلاصِه رأيٌ شاقّ، ولا فكرٌ صادّ، ولكن الإيمان والصدق والإخلاص يدعوه إلى الجهادِ والتفاني وبذلِ الجهد في كلّ ما يؤمِّن الأمةَ داخلاً وخارجًا.
هكذا الجنديّ المسلم مطيعٌ للأوامِر التي يُوجَّه لها من قيادةِ الأمّة المسلمة، ليكونَ جنديًّا مسلِمًا صادِقًا في أعمالِه كلّها، فعينان لا تمسّهما النار: عين باتت تسهَر في سبيل الله، فالساهر في سبيل الله والمجاهد في ثغور الإسلام له فضلٌ عظيم وشرَف كبير، فهو مؤمِن، يؤمِن بالله ورسولِه، مؤمنٌ أخلص لله، ثم أخلصَ لأمّته، مؤمنٌ يرى أنّه في أرضِ الإسلام وتحتَ قيادةٍ مسلِمة، فهو يبذُل كلَّ جهدِه إذا احتِيج إليه، مخلِصًا لله لا يبَالي ولا يُصغِي لأيّ آراءٍ بعيدَة عن الحقّ والاتِّزان.
الأمّة المسلِمة بحاجةٍ إلى رجالٍ في كلِّ ميادين الحيَاة، يخدمون أمّتَهم، ويرفَعون مستوى أمَّتِهم.
فالأمّة إنّما تسعد بأبنائِها المخلِصين الصادِقين الذين أخلَصوا لله قبل كلّ شيء، أخلصوا لدينهم ثمّ لأمّتهم المسلِمة، يعدّون كلَّ عمل في الأمّة عملاً صالحًا، فيصدقون في أعمالهم، ويصدُقون في ولايَتهم، ويجدُّون ويجتَهدون.
الأمّة بحاجةٍ إلى إعلاميّين صادقين، إلى رجالِ إعلام صادقين في توجّهاتِهم وفي أفكارِهم، يعالجون قضايا الأمّة ويكافحون عنها، يقِفون أمام الإعلام الجائر، فيزيّفون الباطلَ، ويدمغونه بالحق، ويخرجون صورةَ الأمّة المسلمة على الوفق الشرعيّ، رجالُ إعلامٍ صادقون في توجّههم وفي فكرِهم وسلوكهم، لا يدَعون الإعلامَ الجائر أن يمسَّ الأمّة بسوء، بل هم مكافحون بأقلامهم بأفكارِهم، يكافحون عن الأمّة، ويحمون حماها، ويجاهدون في سبيل ذلك حتى تفهَم الأمة، ويكونَ لديها وعيٌ سليم. نحن في زمنٍ تكالبت فيه وسائلُ الإعلام، وتنوّعت توّجهاتها، وكثرت كثرةً عظيمة، فأصبَح البعض في حَيرة ممّا يسمَع ويشاهِد، فلا بدّ للأمّة من رجال إعلامٍ صادقين، لا يدَعون ذلك الإعلامَ الجائر أن يبُثّ سمومَه ويخترقَ صفوفَ الأمّة بأكاذيبِه ودعاياتِه المضلِّلة، بل هُم سدٌّ منيع أمامَ كلّ هذه القوّة الشّرِّيرة، بالأقلام الصادِقة، بالكلمات النافعة، بالفكر النيّر الذي يُنقذون به الأمّة من كلّ ما لبِّس عليها، ويزيلون عنها كلَّ الغشاوة التي أحدثتها تلك الوسائلُ الجائرة.
إذًا فالأمّة بحاجةٍ إلى تكاتُفٍ من جميع أفرادِها، وفي جميع ميادينِها، لأنّ هذا هو المطلوب من الأمّة المسلمة، إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|