أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنَّ من رحمة الله لعباده أن جعلَ لهم مواسمَ للطاعات يتنافسُ المسلمون فيها بصالح الأعمال، فضلا من الله ورحمة، والله ذو الفضلِ العظيم.
أيّها المسلم، من هذه الأيام أيامُ عشر ذي الحجّة، فهي أيامٌ معظّمة في شرع الله، لها خصوصيّة في مزيد الطاعة والإحسان، وقد نوَّه الله بها في كتابه العزيز قال تعالى: وَٱلْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، والمراد بها عشرُ ذي الحجة، وقال تعالى: وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ [الحج:28]، والمراد بالأيام المعلومات هي عشرُ ذي الحجّة.
ودلَّت سنّة رسول الله على فضلِها وأنَّه يُشرع التنافس فيها في صالحِ العمل، يقول : ((ما من أيّام العملُ الصالح فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر))، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم يرجِع من ذلك بشيء))، وقال : ((ما من أيّامٍ العملُ فيها أعظم عند الله سبحانه ولا أحبّ إليه من العمل في هذه الأيام ـ يعني عشر ذي الحجة ـ، فأكثِروا فيهنّ من التهليل والتكبير والتحميد))[2].
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبّران ويكبّر الناس بتكبيرهما"[3]، بمعنى أنّهما يحيِيَان هذه السنّة، فيذكرون الله جلّ وعلا، يقومان رضي الله عنهما بذكر الله، فيقتدي النّاس بهما، فيذكرُ الجميع ربَّ العالمين. وكان عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه بمنًى يكبِّر عقِب الصلوات، ويكبّر في فسطاطه وعلى فراشِه وفي مجلسِه، ماشيًا وقاعدًا، وهكذا كانوا يُحيون هذه السنّة ويعظّمونها، فيذكرون الله جلَّ وعلا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلم، في هذه الأيّام المباركةِ يُشرَع لك التزوّد من صالح العمل؛ التوبة إلى الله ممَّا سلف وكان من سيِّئات الأقوال والأعمال.
أيّها المسلم، إنَّ هذه الأيامَ العشر اجتمعت فيها أنواعٌ من العبادة؛ الصلاة والصوم والصدقة والحجّ، فاجتمعت أنواع هذه الطاعة؛ الصلاة والصدقة والصوم والحج، فأكثِر من فعلِ الطاعَة، وبادِر إلى الفرائِض، وأكثِر من النوافِل، في حديث ثوبان: ((عليك بكثرةِ السّجود، فإنَّك لا تسجُد لله سجدة إلا حطّ الله بها عنك خطيئة، ورفع لك بِها درجة))[4].
ويُسنّ صيامُ هذه التّسع لمن قدر على ذلك، ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله أنَّ النبيّ كان يصوم تسعَ ذي الحجة ويومَ عاشوراء وثلاثةَ أيام من كلّ شهر[5].
وأفضلها وآكدُها صومُ يوم عرفة لمن لم يكن حاجًا، يقول في صيام يوم عرفة: ((أحتسبُ على الله أن يكفّر سنةً قبله وسنة بعده))[6].
فعظِّموا هذه الأيامَ، فإنّها أيّامٌ عظيمة عندَ الله، شُرِع لكم فيها أنواعٌ من الطاعة، فتزوَّدوا من صالِح العمل.
أيّها المسلم، شُرع لنا أيضًا في يوم النَّحر أن نتقرَّب إلى اللهِ بذبحِ الأضاحي عبادةً لله، وقربةً نتقرَّب بها إلى الله، والله جل وعلا قد حثّنا على ذلك، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، وقال جلّ وعلا: فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ [التكاثر:2]، وكان نبيّكم كثيرَ الصلاةِ كثيرَ النحر، وقد حثَّ على الأضاحي ورغَّب فيها بقولِه وفعلِه، فمِن قوله ما ثبت عنه أنّه قال: ((ما عمل ابنُ آدم يومَ النحر أحبّ إلى الله من إراقة دمٍ، وإنّه يأتي يومَ القيامة بقرونِها وأظلافها وأشعارها، وإنَّ الدّم ليقع من الله بمكانٍ قبلَ أن يقَع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا))[7]، وقال لمّا سُئل: ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنّةُ أبيكم إبراهيم))، قالوا: ما لنا منها؟ قال: ((بكلِّ شعرةٍ حسنة))، قالوا: الصوف؟ قال: ((وبكلِّ شعرةٍ من الصوف حسَنة))[8]، ونبيّكم حافَظ عليها مدَّةَ بقائِه في المدينة، فما أخَلّ بها سنَةً من السنين كلَّ مدةِ بقائِه في المدينة، منذ هاجَر إلى أن توُفّي ، وكان يُعلِن هذه السّنّة ويظهرها للملأ، قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله إذا صلَّى يومَ النّحر أُتي بكبشَين أقرنَين أملحَين، فرأيتُه واضِعًا قدمَه على صفاحِهما، يسمِّي ويكبِّر، فيذبحهما بيدِه صلواتُ اللهِ وسلامه عليه[9]، ممَّا يدلّ على عظيمِ هذه السّنّة.
أيّها المسلم، ليسَ الهدفُ منها اللّحم، ولكنَّها قربةٌ تتقرّب بها إلى الله، قال الله جلّ وعلا: لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ [الحج:37]، إذًا فذبحُها أفضلُ من الصدقة بثمنِها.
والمسلم يضحِّي عن نفسِه وعن أهلِ بيتِه، أحيائِهم وأمواتِهم، فإنَّ نبيَّنا كانَ يضَحِّي بكبشَين؛ أحدُ الكبشين عن محمّد وآل محمد، والثاني عمَّن لم يضَحِّ مِن أمّة محمّد صلوات الله وسلامه عليه[10]. فضحِّ عن نفسك، وضحِّ عن أهل بيتك، قليلٍ وكثير.
وسنّة محمّد دلَّت على أنَّ الشاةَ الواحدة تغني الرجلَ وأهلَ بيته، قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لمّا سُئل عن الأضاحي في عهد رسول الله قال: كان الرّجل منّا يضحّي بشاةٍ واحدة عنه وعن أهل بيته، حتى تباهى الناس فكانوا كما ترى. بمعنى أنَّ الرجلَ إذا ذبح أضحيةً واحدة عنه وعن أهل بيتِه الأحياءِ منهم والأموات وأشركهم جميعًا في ثوابها نالهم ذلك الثوابُ بفضل الله، فليس الهدف التعدّد، إنّما الهدفُ التقرّب إلى الله.
أيّها المسلم، وأمّا الوصايا التي أوصى بِها الأمواتُ فينفّذها المسلم كما كانت لا يزيد ولا ينقص، لا يُدخل فيها من ليس منها، ولا يخرج منها من هو فيها، وإذا عجز ريع الأوقاف عن الأضحية في عام فأخِّرها ولو عامًا آتيًا، وإذا كان الرجلُ قد أوصَى بعدّة أضاحي وعجز في ثلثه عن القيام بها كلّها فلا بأسَ أن تجعلَها في شاةٍ واحدة وتشرّك الجميع، إذا كان الموصي واحدًا أوصى بعدةِ أضاحي فلم يكن غلّة ذلك الوقف تغطّي الجميعَ.
أيّها المسلم، إنَّ نبيّنا جعل للأضاحي وقتَ ابتداء، فابتداءُ ذبحها من بعد نهاية صلاةِ عيد النحر، يقول : ((من صلَّى صلاتَنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنّة، ومن ذبَح قبل الصلاةِ فليُعِد مكانَها أخرى))[12].
وبيَّن السِّنَّ المعتبَر في الأضاحي، وأنَّها الثني أو الجذع مِن الضأن، وفي الإبل خمس سنين، وفي البَقر سنتان، وفي المَعز سنة، وفي الجذع من الضأن ستة أشهر، فلا يجزئ الأضاحي إلا مِن بهيمة الأنعام؛ من الإبل والبقر والغنم.
ولا بدَّ من سلامتها من العيوب التي تمنَع الإجزاء؛ لأن المقصدَ التقربُ إلى الله بالطيِّب، قال تعالى: وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [البقرة:267]، فنهى أن يُضحَّى بالعوراء البيّن عورها، وهي التي انخسفت عينُها أو برزت فلا تبصِر بها ولو كانت قائمة، ونهى أن يضحَّى بالمريضة البيّن مرضُها، والتي ظهر أثر المرض عليها في مشيِها في أكلِها في شربِها، ونهى بأن يضحَّى بالعرجَاء البيّن ضلعُها، ونهى أن يضحَّى بالعجفاء الهزيلة التي لا تُنْقِي.
وجاء أيضًا النهيُ عن أعضَب القرن والأذن؛ ما كان القطع في الأذن أو القرن أكثر من النصف، وكُره نقصٌ فيها، قال علي رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نستشرِف العينَ والأذن[13]، فكلّ ذلك مكروهٌ التضحيةُ به، أمَّا العيوب الأربعة من العرَج والعوَر والمرَض والهُزال فتلك لا تجزئ مطلقًا، وما كان أشدَّ منها كذلك.
أيّها المسلم، تقرَّب إلى الله بها، وتولَّ ذبحَها إن كنت تقدر على ذلك اقتداءً بنبيّك ، واحضُر ذبحَها فإنّها من شعائِر الدين، وعظموها ـ رحمكم الله ـ كما أمركم بذلك ربّكم، واذبَحوا أضاحيكم في بلادِكم، ولا تكِلوها إلى مَن لا تعلَمون أمانته ونزاهتَه مِن أولئك الذين يطلبون إخراجَها والتبرّع بها ليتولَّوا ذبحَها في غيرِ بلادِكم، وكثيرٌ منهم ليسُوا على مستَوى المسؤولية في ذلك، فتولّوا بأنفسِكم الإشرافَ على هذه السّنّة، الإشرافَ على هذه العبادة ومباشرتَها، فإنَّها طاعةٌ لله وقربة تتقرّبون بها إلى الله.
يُروى في الحديث وإن كانَ فيه مقال أنَّ النبيّ قال لفاطمة: ((قُومي إلى أضحيتِك فاشهديها، فإنّه يُغفَر لك بأوَّل قطرةٍ من دمها))[14].
لا شكَّ أنَّها طاعةٌ لله، وقربة يتقرّب بها العبادُ إلى الله، يُحيون سنّة نبيّهم وسنّة أبيهم إبراهيم، يتقرّبون بذلك إلى الله، ليس الهدفُ اللحم، ولكن الهدف العبادة لله، ليرغِموا أعداءَ الإسلام الذين يتقرَّبون إلى قبور الأموات، ويذبَحون لهم وينذرون لهم، والمسلمُ يتقرَّب بذبحِه إلى الله طاعةً لله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
ليس الهدفُ غلاء الثمَن مطلقًا، إنّما الهدفُ السلامة من العيوب، وخيرُ الأمور أوساطُها، ولا يلزَم التقصِّي في أغلى الثمَن وفي نحوِ ذلك، فإنَّ الهدفَ الطاعةُ، والمهمّ السلامة من العيوب، وخلوّها من العيوب التي تمنَع الإجزاءَ أو التي تنقص الثوابَ، فاتقوا الله يا عباد الله، وتقرَّبوا إلى الله بما يُرضيه.
أسأل اللهَ لي ولكم التوفيق والسداد لما يحبّه ويرضى، إنّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (969) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/75)، والبيهقي في الشعب (3750) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/110)، جوّد إسناده المنذري في الترغيب (2/24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح". وأورد الألباني الحديث في ضعيف الترغيب والترهيب (733، 735).
[3] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق. وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين. كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
[4] أخرجه مسلم في الصلاة (488).
[5] أخرجه أحمد (5/271، 6/248، 423)، وأبو داود في الصوم (2437)، والنسائي في الصيام (2372)، والبيهقي في الكبرى (4/284) عن بعض أزواج النبي ، وقد اختلف في إسناده، وصححه الألباني صحيح أبي داود (2129).
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/222)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (526).
[8] أخرجه أحمد (4/368)، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه في الأضاحي (3127)، والطبراني في الكبير (5/197)، والبيهقي في الكبرى (9/261) من طريق عائذ الله عن أبي داود عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وصححه الحاكم (3467) لكن في السند أبو داود قال البوصيري في الزوائد (3/223): "اسمه نفيع بن الحارث وهو متروك"، وقال البخاري ـ كما في سنن البيهقي ـ: "عائذ الله المجاشعي عن أبي داود روى عنه سلام بن مسكين لا يصح حديثه"، وانظر تخريجه في السلسلة الضعيفة (527).
[9] أخرجه البخاري في الأضاحي (5554، 5558، 5564، 5565)، ومسلم في الأضاحي (1966) بمعناه.
[10] أخرج أبو داود في الضحايا، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة (2810)، والترمذي في الأضاحي، باب: العقيقة بشاة (1521)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم (3121) عن جابر رضي الله عنهما قال: شهدت مع رسول الله الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره وأتي بكبش فذبحه رسول الله بيده وقال: ((بسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضحِّ من أمتي))، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2436).
[11] أخرجه مالك في الضحايا (1050)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1216).
[12] أخرجه البخاري في الجمعة (955، 983)، ومسلم في الأضاحي (1961) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: ((من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم)).
[13] أخرجه أحمد (1/95، 105، 108، 125، 128، 132، 149، 152)، وأبو داود في الضحايا (2804)، والترمذي في الأضاحي (1498)، والنسائي في الضحايا (4372، 4373، 4376)، وابن ماجه في الأضاحي (3143)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2914)، وابن حبان (5920)، والحاكم (1720)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2544).
[14] أخرجه الحاكم (4/222) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وصححه، وتعقبه الذهبي، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (528). |