أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن المؤمنَ حقًا يتَّقي الله فيما عُهد إليه من عمل، فيؤدِّي أمانةَ العمل محسنًا للأداء، مخلصًا لله، يرجو بذلك ثوابَ الله ويخاف عقابَه، يعلم حقًا أنَّ أمانة العمل أمانةٌ عظيمة ومسؤولية جسيمة، إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، ويعلم حقًا أن الخيانة في العمل خيانةٌ لله ورسوله، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
ثم المسلمُ عندما يؤدِّي أمانةَ العمل لا يرجو من الناس ثناءً، ولا يؤمِّل منهم عطاءً، ولا يرتقبُ منهم مديحًا، ولكنه يؤديه أمانة اؤتُمن عليها، فهو يؤدِّيه طاعةً لله، لا يؤمِّل ثناءَ من يثني، ولا يطمع في عطاء من يُعطي، ولا يجامل هذا، ويميل مع هذا، ولكن أمامه أمانة، أمانةٌ اللهُ سائله عنها. إذًا فهو يراقب اللهَ قبلَ كل شيء، ويتقي الله قبل كل شيء، عملٌ اؤتُمن على أدائه سيؤديه بصدقٍ وإخلاص، يحسن في العمل ويبتغي بذلك وجهَ الله، يؤدِّي هذا العمل لكلِّ أحد، بمعنى أنَّه لا يسرع في تنفيذ [حوائج] بعض الناس وتأخير حاجات بعض الناس، أمامَه من يراجعه، هم عنده سواء بالنسبة إلى أداء العمل، فهو يؤدِّي ما يؤدِّي عن طاعةٍ لله، لا تراه يجامل هذا فينجز أمرَه، ويؤخِّر هذا فيماطِل به، يجامل من يظنّ أنَّ في مجاملته تحقيقًا لمآربه ومقاصده المادية، ويماطلُ من يماطل لعلمه أنّه لا يؤثِّر في أمره شيئًا، ولا ينفعه أن أدَّى إليه عملَه. فالعمل يجامل بأدائه؛ فمن يرجو منه منفعةً أو يؤمّل في جانبه مصلحةً، أو يرجو طمعًا ماديًا فإنه يسرعُ بإنجاز العمل وأدائه على الوجه الأكمل، ومن ليس كذلك ماطل به وأخَّر أمرَه، وقابله بوجهٍ مكفهرٍّ ولسان بذيء واحتقار وعدم مبالاة.
أيها المسلم، إن المؤمنَ حقًا يترفَّع عن هذه الرذائل، ويسمو بنفسه عن هذه النقائص، ويتقي الله في أعماله كلِّها، إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَـجَرْتَ ٱلْقَوِىُّ ٱلأمِينُ [القصص:26]، القويُّ في الأداء، الأمين على ذلك، قويٌّ في التنفيذ، أمين في العمل، ليس بخائن ولا مرتشٍ ولا مخادع، ولكن مؤمن صادق، يؤدّي عمله على الوجه المرضي.
أيها المسلم، هذا خلق المؤمن، وتلك سيرةُ المؤمن الطيّب، يؤدّي عملَه طاعةً لله، يرجو بذلك ما عند الله من الثواب. النبي يقول: ((الخازن الأمين الذي يؤدّي ما أمِر به طيبةً بذلك نفسه أحدُ المتصدِّقَين))، فجعل من يؤدِّي العملَ عن طيب نفس من غير خداع ولا انتقاص للواجب، جعله من جملة المتصدِّقين والمحسنين.
أيها المسلم، إن الإسلامَ أوجبَ على المسلم الصدقَ والأمانة في العمل، وحرَّم عليه المماطلةَ في ذلك، وجعل ذلك من كبائر الذنوب.
أيها المسلم، اؤتُمِنت على عملٍ فأدِّه وقتًا وأداء، واتق الله في ذلك، واحذر ـ أخي المسلم ـ أن تستغلّ وظيفتَك وتستغِلّ مكانَك بأن تجعلَ ذلك سببًا لجذب المال لك والثراء من خلال أداء العمل، فتحابي وتجامل لأجل أن تنال مطامعَ مادية في عملك، فذلك المكسب مكسبٌ خبيث، وأخذٌ للمال بغير حق، والله يقول: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ [النساء:29]، ويقول جل جلاله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
أيها المسلم، ولأجل هذا حرَّم رسول الله الرشوةَ، لعن باذلَها، ولعن آخذَها، ولعن الواسطةَ بين الباذل والآخذ، تحذيرًا للمسلمين من شرّها، وإبعادًا لهم من ضررها، وحمايةً لدينهم، وحماية لأموالهم، وحماية للمجتمع عمومًا، ففي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لعن الله الراشي والمرتشي))، واللعن حقيقتُه الطردُ والإبعاد من رحمة الله، فجعل باذلَ الرشوة ملعونًا، وجعل آخذَها ملعونًا، ويُروى في بعض الألفاظ: ((ولعن الله الرائش)) أي: من كان واسطةً بين الاثنين.
لماذا لُعِن أولئك واستحقوا لعنة الله؟ لأيِّ سبب؟ إنَّ سببه الرشوة. لأجل ماذا؟ لأنَّ الباذل لها في الغالب إنما يبذلها ليقلبَ بها الحقائق، ليجعلَ الحقّ باطلاً والباطل حقًا، إنما بذلها ليتوصَّل بها إلى أخذ مال بغير حق، إنما بذلها ليغيِّر بها فكرَ من يدفعها إليه، ويستميله إليه، ويغيّر فطرته، ويجرّه إلى الرذيلة. ما أرخصَ المالَ إلا ليأخذَ به أكثرَ منه، ما بذلَ الرشوةَ إلا لتكون سببًا لاستحواذه على حقوق الناس، وليتوسَّل بها إلى ظلم الناس، إن لم يظلمهم في أموالهم ظلمَهم بتأخّر حقوقهم وإرجاء حقوقهم؛ لأن هذا المرتشي إذا أخذَ المال تغيّر أمره، واستمالت الرشوةُ قلبَه، فجعل ينظر إلى من يعطيه، فأيّ يدٍ تعطيه مالَ معها، ومن لا يعطيه لا يقيم له وزنًا. والآخذ لها لُعن لأنها سببٌ لتعطيل مصالح الأمة وقلب الحقائق، فكان أولئك ملعونين. والواسطة بينهما ملعون، هو أعان على الإثم والعدوان.
أيها المسلم، إنَّ الرشوةَ داءٌ خطير ومرض عضال، وفساد يسري في مجتمعات المسلمين، فيحدث شرًا وبلاء. إنَّ الباذلَ لها أعان على الإثم والعدوان، وإن الآخذ لها ساهم في تنفيذ هذا العدوان وهذا الشر والبلاء.
إن المسلمَ يتقي الله في مكاسبه كلّها، ولا يظنّ مجردَ كثرة المال هي الغاية، فكم من مال كثير نزع الله البركةَ منه، فلا يوفَّق آخذُه إلى خير في دنياه ولا آخرته، مع ما يناله من العذاب يوم القيامة.
إن المسلمين سواءٌ أمام من وُكل العمل إليه، فليتق اللهَ في الأمة، وليتق الله في مصالحها العامة والخاصة، ليتّق الله فيها تقوىً تحميه عن هذه الرذيلة.
إن الباذلَ للرشوة يبذلها أحيانًا ليُتغاضى عنه فيما أخذه مما ينفِّذه من مشاريع الأمة، وفيما يقوم به من المهمّات، فيبذل الرشوةَ لعل الآخذَ يتغاضَى عنه، ويتجاهل أخطاءه ونقصَه، فيقدم عنه تقريرًا وافيًا كاملاً، والله يعلم أنه مبنيٌّ على الكذب والباطل.
فالآخذ والدافع كلاهما شرّ على الأمة، ولا سيما ـ والعياذ بالله ـ إن دفعها ليظلم بها العباد، ووافقه المرتشي ليظلم بها العباد، ويظلمون أمةَ الإسلام، وربما قُدِّم من ليس بثقة، وأخِّر من [هو ثقة]، وضاعت المصالح أمام الراشي وأمام المرتشي.
إنها سحتٌ وبلاء ونار على آخذها، إنها تأتي بصور شتى وألوان مختلفة، لكن حقيقتها يعلمها الله أنها دفع مال للظلم، وأخذ مال ليُعان على الظلم والفساد.
فليتق المسلم ربه، وليتذكَّر قولَ الله تعالى: لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:63]، والسحتُ كلُّ مالٍ أخِذ بغير حق، وكلّ مكسب بغير سبب شرعي فهو سحت، وهو من أخلاق اليهود: سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42].
فالمؤمن يتقي الله، ويرجو من الله البركةَ فيما أُعطي، ففيما بارك الله الخير للقلب والبدن جميعًا.
أيها المسلم، يقول نبينا : ((من استأمنَّاه منكم على عمل، فرزقناه عليه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول))، والله يقول: وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ [آل عمران:161].
إن ضعفَ الإيمان وحبَّ الثراء العاجل والاغترار بهذه الدنيا يحمل ضعفاءَ الإيمان ضعفاء النفوس إلى أن يعلِّقوا آمالاً بمن ينجزون له الأعمال، يعلِّقون آمالاً بهم، فهم لا يحملهم على أداء العمل إلا أن يرَوا ما يوضع في أيديهم، فإن أُعطُوا أنجَزوا، وإلا تماطلوا وتهاونوا وتكاسلوا، ووضعوا العراقيل أمام كلّ حقٍّ يجب أن يؤدّوه.
فليتق المسلم ربه، وليحاسب نفسه في هذه الدنيا قبل أن يلقى الله وقد تحمَّل الأوزار والآثام، وصار ذلك المال الذي أخذه حطبًا يتأجَّج عليه في نار جهنم، فليتَّق المسلم ربه، وليراقبه في كل تصرّفاته والله يقول: يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ [غافر:19]، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:29].
بالرشوة يُحكم على من ليس ثقة بأنّه ثقة، وبالرشوة يُحكم على الفاجر بأنه أتقى الناس، وبالرشوة تُظلم الأمة في مصالحها العامة والخاصة، ولا يرضى بذلك مسلم يخاف الله ويتقيه، وهو ينظر إلى آثارها وأضرارها ومساوئها.
فنسأل الله أن يوفّق الجميعَ لما يرضيه، وأن يعصمنا وإياكم من المكاسب الخبيثة، وأن يرزقنا وإياكم الصدقَ في الأقوال والأعمال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|