أما بعد: فيا أيّها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في الأسبوع الماضي عن كثرة المعاصي وشيوعها في مجتمعات المسلمين، وذكرنا أن من أعظم الأسباب التي توقع كثيرًا من المسلمين في هذه البلايا والرزايا مع الاستهانة بالحرام وعدم تفكيرهم فيما أعد الله عز وجل لهم، ذكرنا أن من أعظم الأسباب إنما هو غفلتهم عن اليوم الآخر وما يأتي بعده، وما أعدّ الله تبارك وتعالى من النار والعذاب للعصاة والمخالفين والمتمرّدين على عبوديتهم لله رب العالمين. ولو تأمل الناس في مصيرهم بعد الموت لما رأينا ـ والله ـ هذه الاستهانة الكبيرة بحدود الله ومحارمه.
عباد الله، وإن من الأسباب أيضًا التي يقع بسببها كثير من العصاة ـ يقعون فيما يغضب الرب جل جلاله ـ التقليد الأعمى، التقليد الأعمى سواء كان لأعداء الإسلام الكافرين من يهود ونصارى وملاحدة ووثنيين ومنافقين، أو كان التقليد للآباء والأجداد والقبيلة والعرف، أو كان التقليد لعامة المجتمع الذي يعيش فيه المقلد.
اعلموا أيها الإخوة، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن التقليد هو العقيدة الكبرى لجميع الكفرة، أوّلهم وآخرهم؛ قال الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ أي: على دين، إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23]، وقال تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ [لقمان:21].
ولما كان هذا هو شأن الكفرة والمخالفين لمنهج الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام بينه الله لنا أحسن بيان تحذيرًا لنا، وأرشدنا جل جلاله إلى ما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة، فأبدلنا قول الله تبارك وتعالى: ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3].
نعم، إن التقليد هو الذي أعمى قوم نوح، أعماهم عن دعوة نوح عليه السلام، أعماهم عن قبول الحق، قال تعالى: فَقَالَ ٱلْمَلَؤُا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لاَنزَلَ مَلَـٰئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ءابَائِنَا ٱلأوَّلِينَ [المؤمنون:24].
ولما بعث الله نبيه هودًا عليه السلام بعثه إلى قومه كانت الإجابة هي نفس الإجابة، كما هي إجابة قوم نوح، قالوا: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا [الأعراف:70]، وكذلك قال قوم صالح عليه السلام، قابلوه بنفس القول، قالوا: يٰصَـٰلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَـٰذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62].
ما الفرق ـ أيها الإخوة ـ بين هذه العبارات وبين عبارات كثير من المسلمين الذين يعرفون حرمة ما يقعون فيه من الموبقات، ولكنهم يصعب عليهم أن يخالفوا ما ألفوه، وأن يخرجوا من قلوبهم ومن بيوتهم ما حرم الله؛ لأنهم وجدوا مجتمعهم على هذا؟!
هؤلاء أيضًا قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا لنبيهم مبينين سبب إصرارهم على عبادة الأصنام، ماذا قالوا؟ قالوا: وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عَـٰبِدِينَ [الأنبياء:53]، كأن الحجة في عبادة الأصنام أن الآباء والأجداد عبدوها، وقالوا أيضًا: وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:74].
نعم، هذا هو شأن كل المتمردين على منهج الله تعالى، وكان آخر من قوبل بهذه المقالة التعيسة محمد ، فقد دعا قريشًا لترك ما عندهم من عبادات وثنية وعادات جاهلية، فقابلوه بنفس الإجابة، قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة:170].
وقد بين رسولنا أن قضية التقليد قضية خطيرة وقاعدة كبرى عند كل المخالفين لرسالته، فقال : ((لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود)) رواه البخاري ومسلم. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله عن العشرة الذين ذكرهم النبي ، قال: "والذي يظهر أنهم كانوا حينئذ رؤساء، ومن عداهم إنما هو تبع لهم".
وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن الذين وقعوا في الفواحش، وقعوا في الموبقات، وقعوا في المنكرات، وقعوا فيما يخالف العقل قبل أن يخالف الشرع، إنما فعلوا هذا ثم استهانوا به لأنهم عهِدوا آباءهم عليه، قال الله تبارك وتعالى عنهم: وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28]، أعوذ بالله من الافتراء على الله تعالى. وما قصة أبي طالب وموته على الكفر ـ عياذًا بالله ـ إلا أكبر شاهد على خطورة التقليد وخطورة تقديمه على ما أنزل الله على رسوله .
أيها الإخوة المؤمنون، إن المسلمين الذين رضوا بمبارزة الله بالمعاصي تقليدًا لغيرهم إنما هم يسيرون على خُطى أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، رضوا بذلك أو لم يرضوا، هذا الوصف لازم لهم، فكيف يعرض المسلم، كيف يعرض المسلم عن آيات الله ويقبل على تقليد البشر الضعفاء؟! قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِـئَايِـٰتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف:57].
أين المقلدون لغيرهم في الوقوع في المحرمات والاستهانة بذلك، أين هم من قوله تبارك وتعالى: إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأسْبَابُ [البقرة:166]؟! ثم ماذا؟ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ حَسَرٰتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ [البقرة:167]، الحسرات يوم القيامة لا تنفع، ولكنها في الدنيا تنفع، يعقبها ندم، يعقبها توبة، ثم يعقبها وقفة رجولية يقول الإنسان للشيطان: كفى تضليلاً، كفى تزيينًا، فيرجع إلى ما يحبه الله ويحبه رسوله .
أين المقلدون لغيرهم في الحرام عن قوله تبارك وتعالى: وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلا رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:67، 68]؟! لماذا لا يلعن المسلم اليوم الكفرة الذين يريدون أن يدخلوه في جحر التقليد الذي لن يخرج منه إلا إذا يشاء الله تبارك وتعالى؟!
أيها الإخوة المؤمنون، كم يوجد في مجتمعات المسلمين من المخالفات في العقيدة، من شركيات ووثنيات كدعاء غير الله والنذر للأولياء والحلف بغير الله والذبح لغير الله وقصد السحرة والكهان والمشعوذين والتساهل الكبير في ذلك، سبب هذا إنما هو التقليد للآخرين. كثير من البلدان الإسلامية اليوم استبدلت شرع الله بالقوانين الوضعية، لماذا؟ تقليدًا للغرب ومجاراة لهم. كم يوجد في مجتمعات المسلمين اليوم من بدع في العقيدة وفي العبادات، بدع عظيمة بسبب تقليد الآباء والأجداد أو تقليد بعض المحسوبين على العلم.
أيها الإخوة في الله، مسألة التشبه بالكفار في المأكل والمشرب والملبس والكلام والعادات والتقاليد والأعياد الذي نهينا عنه في نصوص كثيرة، هل وقوع كثير من المسلمين فيه إلا بسبب التقليد الأعمى؟!
أخي المسلم، يا من يحرص على النجاة، لو تأملت في كثير من المعاصي التي نقع جميعًا ـ نحن وإياك ـ نقع فيها، لا شك أنني وإياك نجزم بأنها حرام، ليس عندنا شك في حرمتها. تأمل معي في هذه المعاصي والمحرمات، تأمل ثم تأمل، ستجد أنها بسبب التقليد، حتى صارت هذه المعاصي جزءًا من حياتنا يصعب علينا التخلي عنه، نعم، كثيرون يصعب عليه أن يتخلى عن مشاهدة التلفزيون، وهو يعلم أن ما يشاهده فيه حرام، هو يرى مسلسلاً أو فيلمًا فيه من العري ما فيه، ولكنه تعوّد على ذلك، كل يوم بعد صلاة العشاء لا بد من جلسة أمام التلفاز، صارت عادة له لا يستطيع التخلّص منها، لو تأملت ـ أخي المسلم ـ لوجدت أن التقليد هو سبب ذلك.
الكلام البذيء، السب واللعن، الكذب، الغش، التساهل في الصلاة، سماع الحرام، الانكباب على مشاهدة ما يعرض في أجهزة التلفاز من غناء وعري وفجور وإباحية، تبرج النساء وكثرة خروجهن لغير حاجة، إدمان النساء للخروج للأسواق، كل ذلك ـ والله ـ لو تأملنا فيه سنجد أنه بسبب التقليد، وربما سماه بعض المتفلسفين ضغط الواقع.
أخي المسلم، أما إنك قد سمعت من النصوص ما يدل على أن التقليد لا يغني عن صاحبه شيئًا، وأنه سبيل المفلسين وحجة الخاسرين يوم القيامة، فأفِق من نومك واستدرك ما فات؛ فإن الله جل جلاله يبدل السيئات حسنات إذا أخلِصت النيات وصحّت التوبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ [الشورى:47، 48].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
|