أما بعد: فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، فإنه تعالى قال: إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ [الأنفال:29].
أيها المسلمون، لئن كان رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هداية للناس وفرقانًا بين الحق والباطل وفيصلاً بين الجاهلية ـ كل الجاهلية ـ وبين الإسلام، فإن رمضان هو الشهر الذي شهد يوم الفرقان، يوم بدر الذي كان إيذانًا بانتصار الحق بقوة مؤيّدة بنصر الله وهداه، وإعلانًا بأن الحق مهما كان له من الوضوح والنصاعة لا يأخذ مكانه على مسرح الحياة ما لم يكن له القوة التي تحميه، هذه القوة التي أرادها الله أن تكون بعيدة عن الرياء والبطر، عاملة في سبيله، طالبة مرضاته، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:47].
جاءت معركة بدر في رمضان، ومن بعدها معارك إسلامية أخرى، لتؤكّد حقيقة مهمة وهي أن رمضان هو شهر البذل والتضحية والجدية والعمل المثمر، لا شهر التكاسل والتخاذل والنوم والبطالة. يوم بدر هو يوم الفرقان كما سماه الله: إِن كُنتُمْ ءامَنْتُم بِٱللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [الأنفال:41]، سمي بذلك لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل.
موقعة بدر هي أعظم غزوات الإسلام فضلاً وشرفًا للأسباب التالية:
أولاً: لأنها أول غزوة كان لها أثرها في إظهار قوة الإسلام، فكانت بدءَ الطريق ونقطة الانطلاق في انتشار الإسلام.
وثانيًا: لأنها رسمت الخط الفاصل بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني، فعاشها الصحابة واقعًا ماديًا وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت قيم الجاهلية، فالتقى الابن مقاتلاً لأبيه وأخيه والأخ مواجهة لأخيه.
وثالثًا: لأن المحرك لها هو الإيمان بالله وحده، لا العصبية ولا القبيلة ولا الأحقاد والضغائن ولا الثأر، وفيها تجلت صور رائعة من الإيمان بالله وصفاء العقيدة وحب هذا الدين.
أيها المسلمون، في مثل هذه الأيام تمر علينا ذكرى تلك الحادثة العظيمة والواقعة الخالدة، ولسنا من أهل البدع الذين يكتفون من مثل هذه المناسبة بمجرد إقامة احتفالات ومهرجانات دون أخذ العبرة والعظة، ولكننا حين نتذكر مثل هذه المناسبة فإن الأمل يحدونا والشوق يستَحِثُّنا إلى تجديد ماضي عهودنا، لا سيما في هذا الزمن زمن الوهْن وحب الدنيا وكراهية الموت، يتذكّر المسلم ذلك ليذكر بحرارة وعظمة مواقفَ مشرقة وأعمالاً خالدة مدى التاريخ، ما كان حديثًا يفترى ولا أساطير تروى، ذلكم الحديث الذي روى من التاريخ أنباء أعظم ثُلَّة ظهرت في دنيا الإيمان والعقيدة، فإن من أجمل ذكريات الأمة هو نصر الله لنبيها وتأييده لدينها، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يفرحون بهذا النصر الجميل، ويرفعون أيديَهم إلى السماء كما فعل رسول الله ، ضارعين إلى المولى عز وجل أن ينصرهم على أعدائهم، قائلين في حرقة وألم مما يصيبهم من أعدائهم: اللهم إنا ننشدك عهدك ووعدك الذي وعدتنا.
أيها المسلمون، إننا مهما وقفنا من وقفات صادقة مع هذه المعركة الفاصلة فإننا لن نوفّيها بعض حقها، إذ هي معين لا ينضب ومعروف لا ينقطع، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى بعض سماتها والدروس المستقاة منها، علَّ الله أن يوفقنا إلى سلوك مسلك رسول الله ومسلك صحابته من بعده.
الوقفة الأولى: وتمثلها المواقف التالية:
قال عبد الرحمن بن أبي بكر ـ بعدما أسلم ـ لأبي بكر رضي الله عنه: لو رأيتني وأنا أُعرِض عنك في بدر حتى لا أقتلك، فقال أبو بكر: أما إني لو رأيتك وقتئذ لقتلتك. ويقابل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه في المعركة ويقتله. ويمر مصعب بن عمير بعد نهاية المعركة ورجل من الأنصار يأسِرُ أخاه أبا عزيز، فيقول مصعب: شدَّ وثاقه فإن أمّه ذات مال، فيقول أخوه: أهذه وصاتك بي؟! فيقول مصعب: هو ـ أي: الأنصاري ـ أخي دونك. ويقول عمر رضي الله عنه لما استشارهم رسول الله في شأن الأسرى: أرى أن تمكنني من فلان قريب لي، وتمكن عليًّا وحمزة من أخويهما فنضرب أعناقهم.
إنها صور تمثل التطبيق الواقعي لمبدأ الولاء والبراء، فالرابطة الحقيقة هي رابطة الدين والعقيدة، مواقف تؤكد أن المؤمن يجب أن ينحاز إلى الصف المسلم، متجردًا من كل عائق أو جاذب، ومرتبطًا في العروة الواحدة بالحبل الواحد، ومن ثم فلا نسب ولا صهر ولا أهل ولا قرابة ولا وطن ولا جنس ولا عصبة ولا قومية حين تقف هذه الوشائج دون ما أراد الله، وإنما هي العقيدة، من وقف تحت رايتها فهو من حزب الله، ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة، ولن يكون للمسلمين اليوم أو غدًا عزٌّ إلا بالرجوع إلى هذه العقيدة عن حب وولاء لدين الله والمؤمنين به، وبراء من كل كافر ومشرك ومنافق ولو كان أقرب قريب، قال تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم [المجادلة:22].
الوقفة الثانية: وتصورها الأحداث التالية:
سأل عوف بن الحارث رسول الله فقال: ما يضحك الربّ من عبده؟ قال : ((غمسه يده في العدو حاسرًا))، فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضي الله عنه. وقاتل عُكاشَةُ بن محْصَن يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله فأعطاه جِذْلاً من حطب، فقال: ((قاتل بهذه يا عُكاشة))، فلما أخذه من رسول الله هزَّهُ فعاد سيفًا في يده طويل القامة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، واستحقّ أن يكون عكاشة من الذين يدخلون الجنة بلا حساب، رضي الله عنه وأرضاه. ورُمي حارثة بن سُراقة بسهم وهو يشرب من الحوض، فأصاب نحره فمات، وثبت في الصحيحين عن أنس أن حارثة قتل يوم بدر، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله، أخبرني عن حارثة، لئن كان أصاب خيرًا احتسبت وصبرت، وإن لم يصب الخير اجتهدت في الدعاء، فقال رسول الله : ((يا أم حارثة، إنها جنان في جنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)) رواه الترمذي.
وأخرج مسلم أن رسول الله قال لأصحابه يوم بدر: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض))، فقال عُميْر بن الحَمَام: يا رسول الله، أجنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال: بخ بخ، فقال رسول الله : ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، وقال: فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلى أن يقتلني هؤلاء، فقذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل وهو يقول:
ركضًا إلى الله بغيـر زادِ إلا التُّقى وعَمَل المَعَاِد
والصبرُ في الله على الجهاد وكلُّ زادٍ عُرضَةُ النفادِ
غيرُ التُّقى والبرِّ والرشادِ
ثمة صور تبرز نظرة أولئك الأبطال إلى الحياة، وأنها ممر لا مقر، وأن كل نعيم في الدنيا زائل لا محالة، ولن يبقى ولن يدوم إلا نعيم الجنان، وفي هذه المواقف درس لكل مسلم وموعظة لكل مؤمن أن يعلم أن الدنيا زائلة وأن نعيمها منقطع، فيؤثر الباقي على الزائل والدائم على المنقطع، ويتزود من الأعمال الصالحات التي تثبت تطلعه إلى الآخرة وزهده في الدنيا.
تلك هي ـ يا مسلمون ـ حياة الأبرار الصادقين، علم نافع، يتبعه عمل صالح راشد، يورث الله تعالى به عبده جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
الوقفة الثالثة: ويجليها المواقف التالية:
قال سعد بن أبي وقاص: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يَعْرِضَنا رسول الله يوم بدر يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟! قال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيسْتَصْغِرَني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال: فعُرض على رسول الله فاستصغره فرده، فبكى فأجازه، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، فقتل وهو ابن ست عشرة سنة.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إني لواقف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عماه، أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟! قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم ألبث أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان، هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه.
إنها صور التربية الجادة لشباب الإسلام في الرعيل الأول، وهكذا يجب أن يكون شبابنا، حماس للدين وغيرة على الحرمات واهتمام بمعالي الأمور، فأين أنتم ـ يا شباب الإسلام ـ من تلك الطموحات؟! ماذا قدمتم لأمتكم؟! وماذا عساكم أن تفعلوا بشبابكم وفراغكم؟! وما مدى صلتكم بتاريخ آبائكم وأجدادكم؟! أليس في هذه المواقف الخالدة لكم قدوة وأسوة بدلاً من الركض وراء الشهوات واتباع الملذات؟! ويا ليت شبابنا يعملون.
الوقفة الرابعة: ويمثلها موقف الحُباب بن المُنْذِر رضي الله عنه، فعندما نزل المسلمون على أدنى ماء من بدر قال الحُبابُ: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة))، فقال الحُباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم منزلة، ثم نعود ما وراءه والآبار، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال : ((لقد أشرت بالرأي)).
فهذه الكلمة من الحباب هي الفقه كله، فهي تمثل منهج الإسلام وتحدّد مجال الرأي، فما كان أمرًا من الله فلا مجال للتقدم عليه أو التأخر عنه، إذ لا مجال للعقل والرأي في هذه الدائرة، وإنما الواجب إزاءها التنفيذ والالتزام. هذا هو الأساس العظيم الذي قام عليه بناء المسلم فيما مضى من الطاعة المطلقة والانقياد لما أمر الله به وأمر به رسول الله ، لا تردد ولا تلكُّؤ ولا مساومة ولا تسويف، ولكن إذا أمر الله بأمر فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36].
أيها المسلمون، هذه لمحات خاطفة، وإنما دروس بدر وعبرها لا تنتهي، دروس في الإيمان، ودروس في الأسباب، وتوجيهات في الطاعة والتخطيط، وتربية في أدب المكاسب والمغانم، في بدر تجلت صور الحب الحقيقي لله ورسوله والاستجابة لله وللرسول، واتضحت حقيقة الإيمان بالله، وبرزت صورة البطولة والتضحية.
لقد أراد الله سبحانه أن تكون هذه الموقعة فرقانًا بين الحق والباطل، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يعرف المسلمون على مدى التاريخ عوامل النصر والهزيمة، وأنها منه عز وجل: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، ولكي يعلموا أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وإنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد.
وإنه لجدير بالمسلمين أن يقفوا طويلاً أمام بدر وقيمها الحاسمة التي تقررها، ففي هذه الغزوة أراد الله أن يري المسلمين مدى الفرق بين ما أرادوه لأنفسهم، وما أراده الله تعالى لهم، فقد أرادوا التجارة والعير وأراد الله لقاء النفير، ليرى المسلمون مدى ما بين إرادتهم لأنفسهم وإرادة الله بهم ولهم من فرق كبير، ويعلموا أن الخير دائمًا فيما اختاره الله سبحانه: وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:7].
وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
|