فلقد مضى أكثر رمضان ولم يبق منه إلا القليل، فطوبى ثم طوبى لمن عرف كيف يغتنم هذه الأيام، فيا فوز ويا فلاح من يخرج من رمضان وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، طوبى لمن كان من أهل الشقاء والنار فأعتقه الله تعالى في هذا الشهر المبارك العظيم، طوبى لمن بادر عمره القصير فعمر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وإعراض النصير.
كان النبي إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. نعم عباد الله، كان النبي إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره أي: اعتزل النساء وجد واجتهد أكثر في العبادة والطاعة وشمر لها. وأحيا ليله أي: سهر ليله فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه. وأيقظ أهله للصلاة، كما جاء ذلك من حديث زينب بنت أم سلمة: لم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
ففي الحديث الحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر من رمضان، والإكثار من الذكر والعبادة وقراءة القرآن وكثرة الاستغفار، الاستغفار الذي يعد مفتاحًا للخير ومفتاحًا للرزق ونزول الرحمات، وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3]، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]؛ لأن الذنوب والمعاصي ـ عباد الله ـ حجاب تحجب العبد عن الله تعالى، والابتعاد والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب، وإنما يتم ذلك ـ بل لا يكون ذلك ـ إلا بالعلم والندم والعزم، فإنه متى لم يعلم العبد أن الذنوب من أسباب البعد عن الله لم يندم ولم يتأثر ولم يتحسر على الذنوب ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع القلب ولم يتأثر مما يتعاطاه من الذنوب فإنه لن يرجع ولن يتوب ولن يستغفر، وقد أمرنا المولى بالتوبة والرجوع إليه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المؤمنون:31].
وهذا إرشاد وتوجيه رباني في وجوب التوبة والاستغفار، بل وأن هذا هو أصل الفلاح والنجاة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].
وقد أمرنا النبي بهذا أيضًا فقال: ((يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)).
أن يخطئ الإنسان فهذا ليس بعيب، وإنما العيب وإنما المذموم هو إصراره على المعاصي وعدم الرجوع إلى الله، كلما أخطأ العبد وأذنب يتذكر رحمة الله وكرمه، وأنه أرحم بعباده من المرأة التي تخاف على طفلها، يتذكر الله وأنه يقول: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
نعم، هذه دعوة من الله، من الرب الغفور الودود الرحيم بعباده، والذي من سعة رحمته وفضله وكرمه يفرح بتوبة عبده ورجوعه إليه، عن أنس قال: قال : ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض مهلكة معه راحلته عليه طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته)).
فكلما أذنب العبد بادر وسارع بالاستغفار والتوبة، وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة، وقد مدح الله عبده داود ووصفه بقوله: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، قيل: الأواب هو سريع الرجوع والاستغفار إلى الله، عن أبي ذر قال: قال : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها))، وعن أنس قال: قال : ((يقول الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)). ففي هذا الحديث القدسي العظيم تتجلى لنا عظمة الله وسعة رحمته ومغفرته للذنوب.
وقد بين هذا الحديث أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة وتكفير الذنوب وهي:
1- الدعاء: ((إنك ما دعوتني ورجوتني)). والدعاء مأمور به العبد موعود عليه بالإجابة، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وعد الله من دعاه بأن يستجيب له، ولكن قد تتخلف الإجابة بوجود بعض الموانع والأسباب التي تحول بينك وبين استجابة الدعاء، ومن أعظم ما يلزم في الدعاء حضور القلوب ورجاء الإجابة، عن أبي هريرة قال: قال : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)).
وقد نهي المسلم من أن يستعجل ويترك الدعاء لاستبطاء الاستجابة، يقول: دعوت فلم يستجب لي، بل هذا خطأ وخطأ عظيم، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف56].
فليلح وليكثر المسلم والمسلمة من دعاء الله ولا يمل أبدًا، فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له، بل من رحمة الله وفضله ورأفته بعبده أن يعوضه بخير مما دعا، فعن أبي سعيد قال: قال : ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها))، وقال تعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)). |