أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله؛ فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة. المتقون من عذاب الله هم الناجون: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]. ولِجنة الله هم الوارثون: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. والقبول في أهل التقى محصورٌ ومقصورٌ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
أيها المسلمون، تبارك اسم ربنا وتعالى جده، هو غفار الذنوب، وستار العيوب، ينادي عباده وله الحمد: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. ويناديهم في ملئه الأعلى: ((يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم))[1]. سبحانه وتقدس هو أعلم بخلقه، علم عجزهم وضعفهم ونقصهم وتقصيرهم، فتح لهم باب الرجاء في عفوه والطمع في رحمته. والأمل في مرضاته: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]. الرحمات من ربنا فياضة لا ينقطع مددها، والنعم من عنده دفاقة لا ينقص عطاؤها. ومن ذا الذي يتألى على الله ألا يغفر ذنوب عباده: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ [آل عمران:135].
أيها الأخوة، إذا كثر الاستغفار في الأمة، وصدر عن قلوب بربها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرف عنها صنوفاً من البلايا والمحن: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
بالاستغفار تتنزل الرحمات: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].
أيها الأحبة، إن هناك صلة قوية بين طهارة الفرد والمجتمع من الذنوب والخطايا وقضاء الحاجات، وتحقيق الرغبات، وتوافر الخيْرات. هناك ارتباط متين بين الثروة والقوة وبين مداومة الاستغفار؛ اسمعوا إلى مناشدة نوح عليه السلام قومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
وأفضل الاستغفار ـ أيها الإخوة ـ أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ثم يثَنِّي بالاعتراف بالنعم، ثم يقر لربه بذنبه وتقصيره، ثم يسأل بعد ذلك ربه المغفرة. كما جاء في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء[2] لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))[3]. قال أهل العلم: وقد كان سيد الاستغفار لأنه تضمن الاعتراف بربوبية الله سبحانه وإلهيته وتوحيده، والاعتراف بعجز العبد وتقصيره، واعترافه بأنه في قبضة مولاه، لا مهرب منه ولا مفر، وتضمن اجتهاد العبد بدخوله تحت عهد ربه ما استطاع وأطاق، لا بحسب حق الله وجلاله وعظمة مقامه، ولكنه جهد المقل.
أيها الإخوة المسلمون، لقد دعاكم إلى المبادرة مولاكم، وفتح باب الإجابة ثم ناداكم، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]. فاتقوا الله ربكم، واستغفروه ذنبكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.
بابه مفتوح للطالبين، وجنابه مبذول للمقبلين، وفضله ينادي: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
سارعوا مسارعة الخائفين، واعترفوا اعتراف المقصرين: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
لله در أقوام بادروا الأوقات، واستدركوا الهفوات، عيونهم بالدمع مملوءة. وألسنتهم عن الزلات محفوظة، وأكفهم عن المحرمات مكفوفة، وأقدامهم بقيد المحاسبات موقوفة. يجأرون في ليلهم بالدعوات، يقطعون أوقاتهم بالصلوات.
صدقوا في المحبة والولاء، وصبروا على نزول البلاء، شكروا سوابغ النعماء، وأنفقوا في السراء والضراء، بذلوا ما عندهم لربهم بسخاء. ووقفوا بباب مولاهم بكل الأمل والرجاء يرجون وعد ربهم بجزيل العطاء: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الدهر:12،13].
عباد الله: إنكم مخلوقون اقتداراً، وكائنون رفاتاً، ومبعوثون أفراداً، فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله، فرحم الله عبداً اقترف فاعترف، وحاذر فبادر، وعمِّر فاعتبر، وأجاب فأناب، ورجع إلى ربه وتاب، تزود لرحيله، وتأهب لسبيله.
عباد الله: هل ينتظر الشباب إلا الهرم؟ وهل يؤمِّل الصحيح إلا السقم؟ وماذا بعد طول البقاء إلا مفاجأة الفناء والفوت، وحلول الأجل، ونزول الموت؟
جعلنا الله وإياكم ممن أفاق لنفسه، واستدرك في يومه ما مضى من أمسه، وأعاذنا الله وإياكم ممن ذهب عمره، وقلَّ عمله، واقترب أجله، وساء بربه ظنُّه.
ألا فاتقوا الله ربكم، وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا الظن، وجدوا في المحاسبة، واصدقوا في اللجوء؛ فمن صدق في اللجوء صحت عنده التوبة. جانبوا أهل الفحش والتفحش، ومجالسة ذوي الردى، ومماراة السفهاء. احفظوا للناس حقوقهم، ولا تبخسوهم أشياءهم. صلوا الأرحام، واسوا الأرامل والأيتام، وتصدقوا بالدرهم والدينار والمد والصاع، واتقوا النار ولو بشق تمرة. فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16].
واحذروا تقلبات الزمن، فما الدنيا إلا أملٌ مخترمٌ، سرورها بالحزن مشوب، وصفوها بالكدر مصحوب، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبُسطت لغيرهم اغتراراً.
تعجلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تغسل الخطايا، وبطهور الاستغفار تُستمطر السماء، وتُستدر الخيرات، وتُستنزل البركات.
وها أنتم عباد الله قد حضرتم في هذا المكان الطاهر بين يدي ربكم تشكون جدب دياركم، وتبسطون إليه حاجتكم، وذلكم بصالح العمل لديه، فأظهروا رقة القلوب، وافتقار النفوس والذل بين يدي العزيز الغفار، استكينوا لربكم، وارفعوا أكف الضراعة إليه، ابتهلوا وادعوا، وتضرعوا واستغفروا، فالاستغفار مربوط بما في السماء من استدرار.
وأكثروا من الصلاة والسلام على المصطفى الهادي البشير إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فالدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصلى على النبي كما جاء في الأثر؛ اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبقاً سحاً مجللاً، عاماً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم تُحي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق. اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا بركاتك، واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع بذنوبنا فضلك.
سبحان الله على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعُري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.
اللهم ارحم الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع، وارحم الخلائق أجمعين. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم ادفع عنا الغلاء والبلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم من أرادنا وأراد بلادنا ومقدساتنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره، اللهم إنا ندرء بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم رد عنا كيد الكائدين وعدوان المعتدين واقطع دابر الفساد والمفسدين، اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وأعزه بطاعتك، وأعز به دينك، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله اقلبوا أرديتكم تأسياً بنبيكم محمد ، واجتهدوا في الدعاء، وألحوا في المسألة. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وأكثروا من الاستغفار والصدقة وصلة الأرحام، واحفظوا الحقوق، ولا تبخسوا الناس أشياءهم عسى ربكم أن يرحمكم فيغيث القلوب بالرجوع إليه والبلد بإنزال الغيث عليه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2577).
[2] ابوء: أي أقرّ وأعترف.
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الدعوات – باب أفضل الاستغفار، حديث (6306). |