أما بعد: صح عن رسول الله أنه قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)).
أيها المسلمون، إن شرعية الزكاة ثابت في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله ، وأجمع المسلمون على ذلك، فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، وأدوا زكاة أموالكم، فإن الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله؛ من جحد وجوبها كفر، ومن منعها بخلاً وتهاونًا كان من فسّاق هذه الأمة، وحكمه في الآخرة أنه تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عز وجل عذبه بالنار بقدر فسقه ثم أدخله الجنة، ومن أداها معتقدًا وجوبها راجيًا ثوابها فليبشر بالخير الكثير والخلف العاجل والبركة، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
أيها المسلمون، أدوا ما أوجب الله عليكم في أموالكم التي رزقكم الله تعالى، لقد أخرجكم الله من بطون أمهاتكم، لا تعلمون شيئًا، ولا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا، ثم يسر الله لكم الرزق، وأعطاكم ما ليس في حسابكم، فقوموا ـ أيها المسلمون ـ بشكره، وأدوا ما أوجب عليكم؛ لِتُبْرئوا ذممكم وتطهروا أموالكم، واحذروا الشح والبخل بالتساهل في شأن الزكاة، فإنّ ذلك هلاككم ونزع بركة أموالكم.
أيها المسلمون المؤمنون، إن هؤلاء الذين بخلوا على الله عز وجل ولم يؤدوا هذا المقدار البسيط الذي أوجبه الله عليهم في أموالهم، ألم يقرؤوا الوعيد بالنيران في كتاب الله عز وجل لمن بخل بما آتاه الله، قال الله عز وجل: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، وقال النبي في تفسير الآية الأولى: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثّل له شجاعًا أقرع ـ وهي الحية الخالي رأسها من الشعر لكثرة سمها ـ مُثّل له شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بشدقيه، يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) رواه البخاري، وقال في تفسير الآية الثانية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فتكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد)) رواه مسلم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، يا من تتهاونون في دفع زكاة أموالكم، فوالله لا يحمى على الذهب والفضة في نار كنار الدنيا، إنما يحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، إنه إذا أحمي عليها لا يكوى بها طرف من الجسم فقط، وإنما يكوى بها الجسم من كل ناحية، الجباه من الأمام، والجنوب من الجوانب، والظهور من الخلف. إن هذا العذاب ليس في يوم ولا شهر ولا في سنة، ولكن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، يا من صدّقوا بالقرآن وصدقوا بالسنة، ما قيمة الأموال التي تبخلون بزكاتها؟! وما فائدتها؟! إنها تكون نقمة عليكم، وثمرتها لغيركم، إنكم لا تطيقون الصبر على وهج الحر أيام الصيف، فكيف تصبرون على نار جهنم؟! فاتقوا الله عباد الله، أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تنجون من عذاب ربكم.
فبـادروا بزكـاة الْمـال إن بِها للنفس والمال تطهيرًا وتحصينًا
ألَم تروا أن أهل الْمـال فِي وجل يخشون مصرعهم إلا المزكّينا
فهـل تظنـون أن الله أورثكـم مالاً لتشقوا به جَمعًا وتَخزينًا
أو تقصروه علـى مرضاة أنفسكم وتَحرموا منه معدمًا ومسكينًا
مـا أنتـم غيـر أقوام سيسألكم إلهكم عن حساب المستحقينا
ولن تنـالوا نصيبًـا مـن خلافته إلا بأن تنفقـوا مِمَّا تحبّـونا
فأدوا الزكاة ـ عباد الله ـ قبل أن تفقدوا المال مرتحلين عنه أو مرتحلا عنكم، فإنما أنتم في الدنيا غرباء مسافرون، والمال وديعة بين أيديكم لا تدرون متى تعدِمون.
ولم يقف الشرع ـ عباد الله ـ عن حد الوعيد بالعقاب الأخروي، بل هدد بالعقوبة الدنيوية كل من يبخل بحق الله عز وجل، قال الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ن:17- 33].
فمانع الزكاة مهدد في الدنيا كذلك بزوال ماله، قال : ((ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين))، وقال : ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا))، مانعو الزكاة سماهم الله في كتابه مشركين، فقال سبحانه: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:6، 7].
فيا من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاة هذا المال، اتق الله، فبسببك وأمثالك منع الناس القطر من السماء. والله الذي لا إله إلا هو، لو أخرج الأغنياء زكاة أموالهم لما رأينا فقيرًا ولا مسكينًا ولا جائعًا ولا عاريًا ولا محرومًا، وهذا ما حدث في عصر الخليفة العادل الإمام الزاهد عمر بن عبد العزيز ، يوم أن أقام العدل في الأمة، ويوم أن عرف الأغنياء حق الله في أموالهم، جُمعت الزكاة في عصر عمر بن عبد العزيز، وأراد عمر أن يوزعها فلم يجد فقيرًا واحدًا في أنحاء الأمة، عقمت أرحام الدولة العمرية أن تلد فقيرًا أو مسكينًا، وكان عمر بن عبد العزيز يحكم أمة تمتد حدودها من الصين شرقًا إلى باريس غربًا، ومن حدود سيبيريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوبًا، ومع ذلك جمع عمر بن عبد العزيز الزكاة فلم يجد مسكينًا واحدًا يأخذ الزكاة، وفاض المال في بيت مال المسلمين، فأصدر عمر بن عبد العزيز أمرًا بأداء الديون وقال: "اقضوا عن الغارمين"، فقُضي ديون الناس وما زال المال فائضًا، فأصدر أمرًا بإعتاق العبيد من بيت مال المسلمين، فأُعتق العبيد وما زال المال فائضًا في خزينة الدولة، فأصدر أمرًا بتزويج الشباب وقال: "أيما شاب أراد أن يتزوج فزواجه على حساب بيت مال المسلمين"، تزوج الشباب وبقي المال.
فيا من أراد أن يُخلف الله عليه وأن يبارك له في رزقه وفي دخله، أنفق على الفقراء والمساكين، وتفقد الأرامل واليتامى والمحرومين، وأنفق من أموالك في أوجه الخير والبر.
فقدموا لأنفسكم ـ يا عباد الله ـ شيئًا تلقونه هناك، قدموا للقبر، قدموا للصراط، قدموا ليوم الفضائح والكربات، واعلموا أن من قدم خيرًا فإنما يقدم لنفسه، وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ [المزمل:20]، وقال الله تعالى: منْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
|