أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، في هذه الأيام من كل عام تتجدد فريضة العمر وأحد أركان الإسلام، ألا وهي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، دَين الله على كل مستطيع من الناس لقوله تعالى: وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، وقوله : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً))[1].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن وسيلة قبولِ العمل أن يكون خالصًا لله تعالى ومطابقًا لسنة رسول الله ، فما علينا ـ أيها الإخوة ـ إلا أن نعرف مناسك الحج على ضوء الكتاب والسنة قبل المباشرة بأعمال الحج، ليكون عملنا إن شاء الله تامًا وصحيحًا ومقبولاً.
وقد صح عنه أنه قال: ((خذوا عني مناسككم))[2]، وقد صح عنه أنه مكث تسع سنين لم يحجّ، ثم أذن في الناس في العاشرة، فقدم المدينة بشَر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ، فلما أتى ذا الحليفة صلى في المسجد ثم ركب القصواء ورفع صوته مهلاً بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك))، وورد: ((لبيك إله الحق)).
وكان بعض السلف رحمهم الله يقول: "لبيك ذا النعماء، لبيك ذا التواصل، لبيك لا شريك لك لبيك، لك الحمد والملك".
ولما وصل مكة وأتى البيت استلم الركن فرَمَل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان مضطبعًا أي: واضعًا طرف ردائه الأيمن تحت إبطه الأيمن، والطرف الثاني على عاتقه الأيسر.
وهنا ملاحظة هامة وهي تغطية الكتفين قبل الصلاة، حيث ذكر بعض أهل العلم أنه لم ير رسول الله يصلي إلا وهو مغطّ كتفيه.
ثم رجع إلى الركن فاستلمه، وقد قال بعض أهل العلم: إن الملتزَم هو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود، ثم خرج من الباب إلى الصفا، لما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ [البقرة:158] وقال: ((أبدأ بما بدأ الله به))، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى أي: أسرع قريبًا من الهرولة، وذلك للرجل دون النساء، وذلك سبعة أشواط، من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط، يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، حتى إذا أتى المروة فعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة أمر الناس أن يحلوا ويجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي. فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي ومن كان معه هدي أو ساق الهدي مهلاً بما أهلّ به رسول الله .
فلما كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى مُهلاً بالحج، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرًا لا جمعًا، ولما طلعت شمس اليوم التاسع أمر بقبة فضربت له بنمرة، فسار رسول الله حتى جاوز المزدلفة ولم يقف بها، حتى أتى عرفة حيث ضربت القبة بنمرة فنزل بها، وصلى بها الظهر والعصر قصرًا وجمعًا وخطب خطبته المشهورة التي بين فيها معالم الدين وحطم عصبيات الجاهلية ونزعاتها، ثم ركب ناقته القصواء حتى أتى الموقف فاستقبل القبلة، ولم يزل واقفًا يهلل ويكبر ويدعو حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً.
ثم دفع رسول الله من عرفة حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا. ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر فصلاه بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا.
ثم دفع رسول الله قبل أن تطلع الشمس من مزدلفة إلى منى، ورمى الجمرة الكبرى مخالفًا الطريق الذي أتى منه، حتى أتى الجمرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف، ثم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم أمر ببعض اللحم فطبخ، فأكل من لحمه وشرب من مرقه، وأرخص للناس بالأكل والتزود، والتكبير المشروع: بسم الله، الله أكبر.
وأقام رسول الله بمنى يوم النحر مع الناس، فما سئل عن شيء قدم قبل شيء إلا قال: ((لا حرج، لا حرج))، قال له رجل: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: ((لا حرج))، ثم جاء رجل آخر فقال: حلقت قبل أن أرمي قال: ((لا حرج))، ثم جاءه رجل آخر فقال: طفت قبل أن أرمي قال: ((لا حرج))، وقال آخر: طفت قبل أن أذبح قال: ((اذبح ولا حرج))، ثم جاءه آخر فقال: إني نحرت قبل أن أرمي قال: ((ارم)). ثم قال نبي الله : ((قد نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر)).
ثم ركب رسول الله فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة المكرمة الظهر وشرب من ماء زمزم، ثم رجع إلى منى وأقام بها ثلاثة أيام بعد يوم العيد يرمي الجمار الثلاث كل يوم بعد الزوال لا قبله, مبتدئًا بالجمرة التي تلي مسجد الخيف الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم الكبرى، يدعو بعد أن يتنحى قليلاً بعد الجمرة الأولى والوسطى أما جمرة العقبة فينصرف بعد رميها مباشرةً.
فهذه ـ يا عباد الله ـ سنة نبيكم في حجه، فاتقوا الله، واحرصوا كل الحرص على الاقتداء به لتحوزوا القبول وتفوزوا برضا الله جل وعلا، وحتى يكون حجكم مبرورًا لا بد أن يكون مطابقًا لحجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وعملاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ [البقرة:200-202].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|