الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، نصب أعلام هذا الدين، فمن تمسك به صادقًا مخلصًا أعزه الله ورفعه، ومن حاد عنه أذله وأخزاه ووضعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وجعلنا الله من أتباعهم، إنه على كل شيء قدير، فهو نعم المولى ونعم النصير.
أما بعد: عباد الله، إنكم تعيشون الآن في أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يأُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ [البقرة:197].
والحج ـ عباد الله ـ هو أحد أركان الإسلام الخمسة الأساسية التي بني عليها الإسلام، وهو من أوضح العبادات أثرًا في حياة المسلمين أفرادًا وشعوبًا، وكيف لا يكون كذلك والله سبحانه وتعالى يقول: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ [الحج:27، 28]؟!
ليشهد الناس منافع لهم في بلد المقدسات ومتنزَّل الرحمات ومهبط الوحي، بلد أمين آمن عظّم الله من شأنه وحمى حماه، وأقسم به تبارك وتعالى، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، أما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بالله جل وعلا، وهو البلد الأمين الذي أقسم الله به في القرآن الكريم، وأضفى عليه الأمن وحمى حماه، وجعل فيه بيته المعظم لإقامة شعائر الدين، وليكون قبلة المسلمين إلى يوم الدين، كما قال الله تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
هذا البلد الأمين يلتقي فيه المسلمون من مختلف الأقطار وشتى الطبقات، وقد ساوى الإسلام بينهم بالحج، فتذوب بذلك كل الفوارق، وتضمحل الشخصيات، فلا يشمخ شريف بشرفه، ولا يتعالى زعيم بزعامته، والكل يلبس ذلك اللباس البسيط الموحد الذي هو أشبه ما يكون بأكفان الموتى، يلبسه الملك والأمير، كما يلبسه الغني والفقير، قد وحدتهم رابطة العقيدة في الشعائر والهدف الواحد، فلا إقليمية، ولا عنصرية، ولا قبلية، ولا قومية، ولا عصبية للونٍ أو جنس أو طبقة، الكل يعيش في أمان وسلام فريد من نوعه، حتى إنه شمل الطير في الجو والصيد في البر والنبات في الأرض، ما دام في بلد الله الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا [آل عمران:97]، أمان كامل من كل شيء.
ومن أجل تحقيق هذه الوحدة الإسلامية العظيمة السامية الرفيعة والتي تذوب فيها كل الفوارق وقف رسول الله في أيام التشريق يخطب الناس ويقول: ((يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى))[1]، ويقول الله تبارك وتعالى: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13]، فالمفاضلة والتفاضل بالتقوى وحدها.
عباد الله، هذه ثمرة من ثمار الحج، والثمرة الأخرى تظهر بذلك التجمع الكبير في مؤتمر عالمي يضم أناسًا شتى، من شتى بقاع الأرض وقارات الدنيا الخمس، فيلتقي رجال العلم والسياسة والإصلاح والدعوة والخاصة والعامة مع بعضهم على هدف واحد، ولو أنهم عقلوا هذا المعنى جيدًا لبلغوا الأهداف وحققوا الآمال بالتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله .
ومن الثمار العظيمة للحج ـ يا عباد الله ـ فرصة تبادل المنافع التجارية على نطاق واسع بين المسلمين، وقد كان بعض المسلمين يتحرج من الاتجار في موسم الحج، فسألوا رسول الله عن ذلك، فنزل قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ [البقرة:198].
عباد الله، هذه بعض الثمار التي يجنيها المسلم في موسم الحج العظيم إلى جانب المقصد الأول من العبادات كلها، ألا وهو توحيد الله عز وجل والامتثال لله جل وعلا والوفاء بحقه تبارك وتعالى، ولتعلموا ـ أيها الإخوة المسلمون ـ أن كل تجمعات الدنيا مهما بلغت في سمو الأهداف وكثرة العدد لن تبلغ هدف هذا المؤتمر العالمي الإسلامي، فواجب على كل من سعد بحضور هذا المؤتمر أن يشكر الله على فضله، ويثوب إلى رشده، ويقلع عن غيه، فيتوب إلى الله توبة نصوحًا خالية من التسويف والتأويلات والطرق الملتويات، ويفتح صفحات جديدة في عقيدة سليمة ليخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته))[2]. الله أكبر يا عباد الله، إنها ـ والله ـ لفرصة ثمينة وعظيمة، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا بفضله ذلك.
أقول هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
|