أما بعد: أيها المسلمون، يهدف الإسلام الذي شرفنا الله به ورضيه لنا دينًا إلى حفظ النسب والنسل، ويدعو إلى حفظ الفروج وصيانة الأعراض، ويرغب في عمارة الكون وإصلاح الأرض وما يحقق للمجتمع الإسلامي الاستمرار والبقاء، ولا يتأتى ذلك إلا باتباع ما شرع الله من التزاوج والتناسل.
الزواج ـ عباد الله ـ وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة عقدها الشارع الحكيم وحبّب للناس القيام بها، بل هو ضرورة من ضرورات الحياة؛ لما يحقّقه من آثار طيبة وثمرات مباركة تعود على الفرد نفسه ومجتمعه وأمته بالخير العميم والنفع العظيم.
في الزواج ـ عباد الله ـ جمع الشمل والتئام الشعث وطمأنينة النفس وراحة الضمير وحصول الولد وعمارة الأُسر، فيه المودة والرحمة وقمة الأنس وتمام النعمة، فيه غضٌ للبصر وحفظ للفرج وحرث للنسل ومتاع للحياة وإحصان للجوارح، وفيه الخير كل الخير لمن وفقه الله عز وجل، ولهذه المنافع الجمّة والحكم العظيمة المحبّبة للنفوس البشرية ولما ركبه المولى جل وعلا في الإنسان من الغريزة والشهوة كان لا بد للرجل والمرأة من الزواج، سكنًا ولباسًا ومودة ورحمة، وقد امتن الباري جل في علاه على خلقه بهذه النعمة، وجعلها آية من آياته توجب التفكر والشكر، فقال جل جلاله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، بل جاءت نصوص الكتاب والسنة القاطعة والأوامر الصريحة بالنكاح وبيان آثاره، قال الله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ويقول سبحانه: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، وقد كان الزواج ملة الأنبياء وسنة المرسلين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
وسنة المصطفى القولية والفعلية تحثّ على ذلك وترغب فيه، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج))، وقال منكرًا على من رغب عن الزواج ونحوه مما أحل الله: ((لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه، وفي صحيح مسلم: ((الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة)).
أيها المسلمون، لقد كان الزواج سنة سلف هذه الأمة رحمهم الله، قال الصديق : (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، وقال ابن مسعود : (التمسوا الغنى في النكاح)، وقرأ قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. وقال : (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها يومًا ولي طَوْلٌ على النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة). وقال إبراهيم بن ميسرة: قال لي طاووس: لتنكحنّ أو لأقولنّ لك ما قال عمر لأبي الزوائد: (ما يمنعك عن النكاح إلا عجزٌ أو فجور). وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير التزوج دعاك إلى غير الإسلام". وفي الاختيارات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام".
أيها المسلمون، ما الذي يمنع عن الزواج والمبادرة إليه وتيسير طرقه وتذليل الصعاب أمام الراغبين فيه وقد عُلمت منافعه وآثاره وقَرعت أدلته النقلية والعقلية الأسماع؟! أيمنع منه عجزٌ وتقصير؟! أيمنع منه تساهل وعدم مبالاة بالعواقب، أو انسياقٌ وراء الناعقين من أعداء الشريعة الذين تقُضّ مضاجعهم كثرة المسلمين وزيادة عددهم، أو انجرافٌ في سيل عادات جاهلية وتقاليد اجتماعية مخالفة لمنهج الكتاب والسنة، أو انسياق وراء مظاهر خادعة وتكاليف باهظة هي آصار وأغلال ما أنزل بها من سلطان؟!
بحقٍّ أيها الأحبة، كان الله في عون الضعيف الذي لا يقدر على تكاليف الزواج، ما ذنب هؤلاء؟! وما جريرة آلاف الفتيات اللاتي مُنعن الأزواج وأُبعدن عما خُلقن له، وحيل بينهنّ وبين أن يكنّ زوجات وأمهات ومربيات أجيال ودعائم أُسر؟! كفى بأولياء أمور هؤلاء البنات جشعًا وشراهة وجهلاً وتفاهة أن يعضلوهنّ ويجعلوهنّ سلعةً معروضةً للمساومة، أين هؤلاء من قوله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))؟! أجهل هؤلاء أنه عند توفر الدين والخلق والأمانة تتلاشى الماديات وتذوب ألوان التفاخر والمباهاة؟! أنسي هؤلاء الحمقى أن صفوة الخلق وقدوة العالم عليه الصلاة والسلام زوّج رجلاً بما معه من القرآن، وقال للآخر: ((التمس ولو خاتمًا من حديد))؟! ولم يُذكر عن أحد من سلف هذه الأمة أنه غالى في مهر أو أسرف في نفقة أو باهى بشيءٍ مما عليه الناس اليوم، إذًا فلماذا يصرّ كثير من سفهاء الأحلام وضِعاف البصيرة في الانسياق وراء هذه المظاهر الخادعة والشكليات التافهة؟! إنهم بصنيعهم هذا يعرّضون الأمة بأسرها للفساد والانحلال.
أتدرون ـ معاشر المسلمين ـ ماذا يجرّه الواقع المؤلم من تعقيد أمر الزواج ورد الأكفاء ووضع العقبات في سبيله؟! إنه يعني فتح الباب على مصراعيه للفساد الخلقي والانحلال والتفسخ والإباحية، إنها دعوة مبطنة للزنا واللواط والاستمناء ووضع الشهوة في غير الطريق المشروع واستشراء الجرائم الخلقية المدمرة. بماذا نفسر ظواهر الزنا والاختطاف والمعاكسات والمغازلات وهروب كثير ممّن اكتوَوا بنار الشهوة واصطلَوا بلَظاها إلى بقاع تروج بها سِلع الفساد وتسهل فيها طرقه؟!
إن الغريزة الجنسية ـ عباد الله ـ إذا أثيرت لا تعرف التوسّط والاعتدال، إنها تقذف بصاحبها في وادٍ من الرذيلة سحيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، ونحن في عصر ضعف فيه الإيمان، وقست فيه القلوب، وعميت فيه البصائر، وفسدت فيه الهمم إلا من عصم الله، وكثر الفساد، وعمّت وسائل الباطل، وقادت موجات الفسق التي تضرب على وتر الجنس والأغاني، هذه الصور الخليعة وهذه الأفلام الماجنة وهذه المظاهر السيئة التي تودي بالإنسان ـ إن لم يحصن نفسه بالزواج ـ إلى هاوية الفساد، وبالمجتمع إلى أقصى مراتب الانحدار والتقهقر. هل نرضى أن تموج أمواج الفساد لتُغرق شبابنا وفتياتنا ونحن نتفرج؟!
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أن هذا الأمر مسؤولية المجتمع بأسره، وأن المسؤولية تقع أول ما تقع على عاتق الوجهاء والعلماء والعقلاء وأهل الحلّ والعقد والمكانة، فليكونوا قدوة للمجتمع في هذا الشأن.
فإننا ننادي باسم الشباب الهائم على وجهه والحائر في أمره، وباسم الفتيات اللاتي غُلِبن على أمرهنّ، فإننا جميعًا ندعو ونخاطب العقلاء والوجهاء لدراسة موضوع الزواج وإزالة العقبات حوله، فإنه ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ لا صلاح للأمة إلاّ بصلاح شبابها وفتياتها، ومن أعظم طرق الصلاح وأهم أسبابه النكاح الشرعي والزواج الإسلامي، ولا تبرأ الذمة ـ وقد بلغ السيل الزُّبى وطفحت المقالات وعمّت الكتابات وكثرت المناداة ـ إلا بعلاج هذا الأمر، ولكن هل من مجيب؟! ونسيان هذا الأمر والتساهل فيه يعرض المجتمع للفتنة والعذاب الأليم، وينحدر بالمجتمع الإسلامي إلى ما لا تحمد عقباه.
هذا، ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهيّئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يصلح حالنا، وأن يكبت كيد أعدائنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
|