أما بعد: يحلو الحديث عن الرجال العظماء من الناس، ولكن الحديث عن هذا الرجل العظيم لا يجاريه أي حديث في روعته وحلاوته والطرب به والشوق إليه، رجل ملأ حبه القلوب، واصطفاه الله على الناس، فجعله أكرمهم وأحبهم إليه، وكان خليل الله، إنه رسول الله .
حديث اليوم عن الحبيب الذي تشتاق إليه النفوس، وبذكره ترق وتلين القلوب، وعند الحديث عنه تطمع النفوس المؤمنة إلى رؤيته والالتقاء به في الجنان، والموعد حوضه الشريف حيث ينتظر المؤمنين، يأتون إليه غرًا محجلين عن باقي الأمم كي يشربوا من حوضه الشريف شربه هنيئة لا يظمؤون بعدها أبدا.
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب من بني هاشم من قريش، أعز الناس نسبًا، وأشرفهم مكانة، ولد في بطاح مكة، فرأت أمه نورًا أضاءت له قصور الشام، نشأ حين نشأ يتيمًا، فكفله جده ثم عمه، واسترضع في ديار بني سعد، أرضعته حليمة السعدية، فكانت أسعد الناس به، نزلت الملائكة من السماء فشقت صدره وغسلت قلبه، فنشأ نشأة طهر وعفاف في مجتمع جاهلي يعج بالشرك والظلم والمنكرات، لم يتجه يومًا بقلبه إلى صنم، ولم يعاقر خمرًا، ولم يتسابق كغيره إلى النساء. صادق اللسان، لم يجرب عليه قومه كذبةً واحدة، أمين وأي أمين.
تزوج في شبابه وقبل مبعثه بأكرم النساء وأحصنهم وأعفهم وأرجحهم عقلاً أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فأنجب منها جل أبنائه وبناته. حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه بعدما كره بفطرته السليمة ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، فكان يصعد إلى غار حراء، فيمكث به الليالي ذوات العدد ناظرًا للكعبة الشريفة والسماء.
بشر بقدومه الأنبياء من قبله، وهتفت الجن ببعثته، وامتلأت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا. بعثه الله للناس على رأس أربعين سنة، فلما اقتربت طلوع شمسه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سمع من يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت فلا يرى إلا الحجر والشجر، فلما كان ذات ليلة على عادته في الغار وإذا بجبريل عليه السلام يأتيه رسول مرسل من ربه بـاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1، 2]، فرجع بها إلى بيته خائفًا يرجف منها فؤاده قائلاً: ((زمّلوني زملوني))، فسكبت عليه خديجة رضي الله عنها أعذب الكلام وأروعه حتى هدأت نفسه: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصِل الرحم وتحمل الكلَّ وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحقّ.
ثم تتابع الوحي عليه من ربّه آمرًا له بالدعوة إلى الله، فخرج يدعو سرًّا من كان يرجو قبول الحق، فلما تكاثر المؤمنون من حوله أتاه الأمر: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94]، فلقي منذ ذلك الوقت صنوف الأذى والسخرية والاستهزاء، وتحمل هو ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يزدادون يومًا بعد يوم الشدائد لتمسكهم بالإسلام والمحافظة على هذا الدين العظيم، فلما رأى من قومه الصدود والإعراض بدأ بإخراج دعوته خارج مكة، فوصل الطائف ولاقى من أهلها أكثر مما لاقاه من قومه في مكة، فأخذ يعرض دعوته على القبائل حتى هيأ الله له نفرًا من أهل المدينة قدموا مكة في الموسم، فعرض دعوته عليهم، فأوقع الله في قلوبهم الإيمان، فاتفق معهم على الهجرة للمدينة وأن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون أبناءهم وأهليهم، فكانت تلك الهجرة العظيمة وذلك الحدث التاريخي الذي قلب الأمور على الأرض رأسًا على عقب، وانطلقت دولة الإسلام من المدينة، وبدأ الجهاد لما توافرت أسبابه، فجاهد رسول الله هو وأصحابه بأموالهم وأنفسهم حتى فتح الله له القرى وأمها، ودانت له جزيرة العرب، وهابته الأعاجم في ديارها، فكان من آخر أمره حجه بالناس، فنصح وبلغ رسالة ربه حتى حانت ساعة وفاته عليه الصلاة والسلام التي نقف عندها بعد أن نقف على شيءٍ يسير من صفاته وشمائله وخصائصه التي خصه الله بها في الدنيا والآخرة.
فإن سألت عن شكل خِلقته: كيف كان؟ فإنك تسأل القمر ليلة تمامه، فكان أجمل الناس وأبهاهم منظرًا، أبيض مشربًا بحمرة، ربعة من الناس، فليس بالطويل ولا بالقصير، عظيم الهامة، واسع الجبين، مقوس الحواجب في غير اقتران، طويل الأنف مع صغر أرنبته، له نور يعلوه، كث اللحية، واسع الفم، مفلوج الأسنان، ليس بالنحيف ولا بالسمين، مستوي البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، أشعر الذراعين والمنكبين والصدر، لين الملمس كأن يده الحرير.
يمشي وكأن مشيته في منحدر، إذا التفت التفت بكل جسمه، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، يمشي وأصحابه أمامه، طويل السكوت، دائم الفكرة، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح كلامه ويختمه باسم الله تعالى، يتكلم بجوامع الكلم، ولا يضحك إلا تبسمًا، لا يتكلم فيما لا يعنيه، يؤلف الناس ولا ينفرهم، يتفقد أصحابه ويسأل عنهم، يحلم على الجاهل والسفيه، ويصبر على من يحادثه حتى يكون محدثه هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور جميل من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبًا.
مجلسه مجلس علم وحياء وأدب، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تذاع فلتاته، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بصخاب ولا فحاش ولا عياب. يبيع ويشتري، يضحك مما يضحك له الناس، ويتعجب مما يتعجبون.
بين كتفيه خاتم النبوة، وهي غدة حمراء بها شعرات مجتمعات، كان شعره إلى أنصاف أذنيه، وعدت شعيراته البيضاء فبلغت عشرين شعرة، وقال عنها: ((شيبتني هود وأخواتها)). يحسبه الرائي له أنه يخضب بالحناء شعره، ولكنه كان وبيص الطيب الذي يضعه، يحب الطيب وأمر بأن لا يرد.
عاش عيشة الزهد، فلم يشبع من خبز الشعير قط، يمر على بيوته الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيوت آل محمدٍ نار، ربما وضع حجرين على بطنه ليسكت جوع بطنه. كان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا انتهى بأدب. أحب من الطعام الدباء والحلوى والعسل، وكان لا يذم طعامًا قط.
قسم وقته داخل بيته ثلاثة، فقسم لله، وقسم لأهله، وقسم لنفسه، وقسم الذي لنفسه ما بينه وبين الناس. كان يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقًا، كان يسمر مع نسائه ويحدثهن ويحدثونه فيستمع إلى أحاديث النساء.
كان راجح العقل، صادق الفراسة، ثابتًا في الشدائد، صابرًا في البأساء والضراء وحين البأس، حليمًا وقورًا وفيًا للعهد والناس، يصفح ويعفو عمن أساء له، فعفا عمن سحره، وعفا عمن دس له السم، وصفح عن أهل مكة. كان وسطًا يحب الاعتدال، كريمًا سخيًا كالريح المرسلة.
أيها المؤمنون، لقد انفرد نبيكم عن إخوانه من الرسل والأنبياء والناس أجمعين بخصائص في الدنيا والآخرة لم تكن لغيره كرامة وتشريفًا لهذا النبي الكريم.
منها أن الله أخذ العهد والميثاق على الأنبياء من قبله على الإيمان به ونصرته والبشارة به، ومنها أن رسالته كانت للناس كافة وكانت رسالة من قبله من الأنبياء لأقوامهم خاصة، ومنها أنه خاتم الأنبياء والمرسلين وكانت رسالته رحمة للعالمين، ومنها أنه النبي الوحيد الذي خاطبه الله بوصف النبوة والرسالة، فكان القرآن ينزل بـيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ويَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، ونادى بقية الأنبياء بأسمائهم.
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام أن جعل الله له ولأمته الأرض مسجدًا وطهورًا، ونصر على أعدائه بالرعب، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. كانت معجزات الأنبياء من قبله وقتيةً تنتهي بموتهم وكانت معجزته خالدة إلى يوم الدين: القرآن الكريم.
تفرد عن بقية الأنبياء بالإسراء والمعراج حتى أدناه الله منه في سدرة المنتهى.
خصه الله يوم القيامة فأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، وهو مقام الشفاعة العظمى للخلائق عند ربهم حتى يفصل فيهم، ويشفع لأمته حتى يبلغوا ثلثي أهل الجنة.
أكرم الله أمته كرامة له، فكانت خير الأمم أخرجت للناس، وأحل الله لها الغنائم، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم، وتجاوز عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحفظ هذه الأمة من الهلاك والاستئصال، وجعلها أمة لا تجتمع على ضلالة، وأعطاهم الله الأجر العظيم على العمل القليل، ويأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، ويسبقون الأمم إلى الجنة.
أظهر الله على يديه من المعجزات ما يبهر العقول، ففلق له القمر فلقتين، وتكلمت الحيوانات بحضرته، وسبح الطعام بين يديه، وسلم عليه الحجر والشجر، وتكاثر له الطعام والشراب كرامة، وأخبر بالمغيبات، فما زالت تتحقق في حياته وبعد وفاته.
فاللهم اجز نبينا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفره، اللهم وآته الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، وأوقفه المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد.
عباد الله، استغفروا ربكم يغفر لكم، إن ربكم لغفور رحيم.
|