أما بعد: أيها المسلمون، إن المخلص من هذه الأمة وهو يتأمل في حالها اليوم وما وصلت إليه من القهر والذل قد يتبادر إلى ذهنه هذا السؤال: هل يمكن أن تقوم للمسلمين قائمة، ويرجع المسلمون إلى عزهم ومكانتهم، بل وإلى قيادة البشرية كما كان أسلافهم؟! هل يمكن أن ترجع الأمة إلى سالف عزها بعد أن تكالب عليها أعداؤها من كل جانب وقاموا بضربها بيد واحدة؟! هل ستفيق هذه الأمة من نومها خصوصًا بعد أن قام أناس من أبنائها بمحاربة دينها، وأصبحوا هم الذين يطاردون الصلاح فى كل ناحية من نواحيها؟! فليس الغريب أن يحصل ذلك من الكفار أو من اليهود أو من النصارى فهذا أمر طبيعي، لكن الغريب والمؤلم أن يحارب الإسلام أهل الإسلام، المؤلم أن يفتك أناس من هذه الأمة بها أكثر وأشد من فتك اليهود والنصارى، فهل بعد هذا كله ـ وفى ظل الظروف الحالية التى تمر بها أمتنا ـ يمكن أن تعود الأمة وتقوم من سباتها وتنفض غبار النوم عنها؟! وهل سيأتى نصر الله عز وجل بعد الوصول إلى هذه الحالة؟!
إن هذا سؤال قد يرد على أذهان البعض، وهو سؤال ليس بغريب، بل وفى محله ووقته، لذا فإنى رأيت أنه من المناسب أن أخصّص هذه الخطبة فى الإجابة على هذا السؤال، فأقول وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى:
لا شك أن كل مسلم يتطلع دائما إلى نصر الله عز وجل لأوليائه المؤمنين، وكيف لا يتطلع وهو يقرأ فى كتاب ربه: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]؟! كيف لا وهو يقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]؟! فنصر الله عز وجل لهذه الأمة قريب كما قال ربنا، فكل لحظة من حياتنا وكل ذرة من ترابنا وكل شيء فى حياتنا تؤكد معنى هذه الآية: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
أيها المسلمون، لا بد أن نعلم ـ بل نعتقد ـ بأن الحق والعدل أساس فى هذا الكون وأصل فى بناء السماوات والأرض، والدنيا بدأت بالحق وستنتهي بالحق، ويوم القيامة يتجلى الحق فى أعلى وأجل صورة، ومن هذا الحق أن تعود لأمة الإسلام قيادتها للبشرية، ومن الحق أن يعود حكم الإسلام فى الأرض كله، ومن الحق والعدل أن تزول هذه الغشاوة وتنقشع هذه الغمة، وتعود هذه الأمة إلى وضعها الطبيعى، ويتحقق قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
أيها المسلمون، لا يغركم انتعاش الكفر وتسلطه على الدنيا في هذه الفترة، فإن الله جل جلاله يقول: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، فإن الكفر والباطل وإن تسلط فإن تسلطه محدود بقدر من الله، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر هذا التسلط وهذه الغلبة فإن لكل شيء نهاية، ولنفرض أن الكفار استطاعوا أن تكون لهم الغلبة مدة الحياة الدنيا كلها مع أن هذا الافتراض ليس بصحيح، ولكن لنفترض ذلك أليس نحن المسلمين نعتقد ونؤمن بأن الله وعدنا بالآخرة ووعدنا بالجنة ووعدنا بالحياة الأبدية الباقية؟! فما قيمة الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها مقارنة بالآخرة؟! لا شيء، فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]. فليأخذوا هم الدنيا بأسرها، ولتكن لنا الآخرة. وكما قلت: فإن هذا الافتراض ليس بصحيح؛ لأنها حتى فى المدة الزمنية في هذه الدنيا فإن حكم المسلمين وتمكنهم أطول وأكثر من تسلط الكفار وتمكنهم.
إذًا لا بد أن لا نغفل الآخرة حين نقارن، فإغفال الآخرة يخل بالمقاييس وتضطرب الأمور، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع)).
أيها المسلمون، لماذا قص الله علينا في كتابه قصة أصحاب الأخدود بهذه الطريقة لمن تأملها وبتلكم النهاية التي انتهت إليه؟ إنه حادث مؤلم جدًا، أن تحفر حفرًا في الأرض ثم تؤجج فيها النار ويلقى فيها أبرياء لا ذنب لهم سوى الإيمان، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. إنه حادث بشع، ولحكمة لم تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث كما لا تذكر النصوص القرآنية أن الله قد انتقم منهم بسبب جريمتهم البشعة، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط، أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر. وعند المقارنة المادية وإغفال عالم الآخرة يكون هؤلاء المجرمون هم المنصورون، وأولئك المؤمنون هم الخاسرون، لكنّ الله عز وجل يخبرنا بهذه الحادثة في كتابه وبهذه النهاية ليعلمنا شيئًا آخر وليكشف لنا عن حقيقة أخرى قد نغفل عنها وهو أن الحياة الدنيا وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ومن متاع وحرمان ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة، ولم تعد مجال المعركة هو الأرض وحدها، وليس هو الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال، بل إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج:8، 9]. وهكذا اتصلت حياة المؤمنين في الأرض بالحياة الباقية الخالدة في الملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر والحق والباطل والإيمان والطغيان، ولم تعد الدنيا هي خاتمة المطاف ولا موعد الفصل في هذا الصراع. لقد انفسح المجال في المكان، وانفسح المجال في الزمان، وانفسح المجال في القيم والموازين، واتسعت آفاق النفس المؤمنة وكبرت اهتماماتها، فصغرت الأرض وما عليها والحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكبر المؤمن بمقدار ما معه من إيمان غيبي وما عرف من الآفاق وما يتعلق بالحياة الآخرة، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:10-12].
أيها المسلمون، قد يقول لنا الكفار: أنتم تتسلّون بهذا الكلام، وتسلّون أنفسكم بعدما رأيتم بأننا هيمنا على الشرق والغرب وقبضنا زمام هذه الدنيا وصار كل شيء تحت تصرفنا، أصبحتم تقولون بأنكم تنتظرون الجنة، وأن الآخرة أفضل من الدنيا، وأن الدنيا لا تقاس بالآخرة، وأن نعيم الكفار فى الدنيا ونعيم المؤمنين في الآخرة، فأنتم تسلون أنفسكم بهذا الكلام؛ لأنكم عاجزون أن تصلوا إلى ما وصلنا إليه.
فيقال ردًا على هذه الشبهة: وإن كنّا نتسلى بهذا الكلام لكنه حساب منطقي جيد، حتى فى نظر غير المؤمنين، حتى فى نظركم أنتم أيها الكفار؛ ألم تر أن الكفار هم أنفسهم يرضون أحيانًا بذل مؤقَّت طمعًا فى نصر كبير، نعم الكفار أنفسهم يرضون بذل مؤقت طمعًا فى نصر كبير، خصوصًا إذا توقعوا أن بعد هذا الذل فوزا أكبر منه، فلماذا تعيبون علينا ـ نحن المسلمين ـ إذا وقعنا تحت قهر وذل خارج عن إرادتنا ونحن موعودون بنعيم وفوز أعظم وأكبر من الدنيا كلها؟!
ولأضرب لكم مثالاً يوضح هذه القضية، وليكن المثال فى الكفار أنفسهم، ولنختر اليهود بالذات لأنهم حديث الساعة هذه الأيام وكل الأيام، ولنرجع قليلاً إلى الوراء إلى أيام أزمة الخليج، لماذا لم ينتقم اليهود من الصواريخ التي أرسلها النظام العراقي والتى أصابت بعض المواقع في تلك الأزمة وحققت بعض الخسائر عند اليهود، خسائر في الأوراح فضلاً عن الخسائر المادية؟! لماذا رضي اليهود بذلك الذلّ المؤقت ولم ينتقم من العراق؟! هل عجزًا؟! الجواب: لا، هل خوفًا؟! الجواب: لا، لكنهم رضوا بذلك الذل المؤقت طمعًا فى تحقيق نصر أكبر. ولعل الأحداث بعد ذلك كشفت عن المكاسب اليهودية من ذلك السكوت ومن ذلك الذلّ المؤقت. ماذا كان يحصل لو أن إسرائيل ردت على العراق فى تلك الفترة الصاع صاعين؟! لا نريد أن ندخل فى علم الغيب والعلم عند الله عز وجل، لكني أطرح سؤالاً: هل مشروع السلام كان سيتم بعد انتهاء أزمة الخليج بعجرها وبجرها بهذه السرعة وبهذه الموافقة الجماعية من دول الجوار لو أن حربًا جديدةً قامت بين العراق وإسرائيل؟! أدع الجواب لكم.
أيها الأحبة في الله، إذا كان هذا فى المقاييس المادية فما بالكم بالمقاييس الأخروية؟! فإن التضحية من أجلها والصبر لها أجل وأوضح، هذا جانب واحد، وهو قياس الدنيا بالآخرة.
جانب آخر: النظرة إلى الدنيا لوحدها، حتى لو نظرنا إلى الدنيا لوحدها وأغفلنا جانب الآخرة على فرَض فإننا نجد أن دين الله عز وجل كان هو الغالب وكان هو المسيطر مدة أطول مقارنة بتسلط الكفار. هل تعلم أن بعد آدم عليه السلام بقي الناس كلهم على التوحيد عشرة قرون كما قال ابن عباس في قول الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213]، قال ابن عباس: (كان الناس بعد آدم عليه السلام عشرة قرون كلهم على التوحيد)، فكيف تقارن خمسين أو مائة سنة سيطرت فيها حضارات زائفة مادية منحرفة وتنسى عشرة قرون كان المسيطر هو دين الله وشرع الله والتوحيد؟!
كذلك أيضا: بعد بعثة محمد كم مكثت هذه الأمة المحمدية ظافرة منتصرة منصورة، بقيت هذه الأمة أكثر من اثني عشر قرنًا ظافرةً منتصرة منصورة، بيدها تدبير كثير من الأمور حتى الأمم الكافرة، وهذه هي التى طالما تغنى بها كثير من الشعراء:
ملكنـا هـذه الـدنيـا قرونـا وأخضعها جدود خالدونا
وسطّرنا صحـائف مـن ضيـاء فما نسي الزمان ولا نسينا
حَملنـاهـا سيـوفـا لامعـات غداة الروع تأبى أن تلينـا
إذا خرجـت مـن الأغماد يومًـا رأيت الهول والفتح المبينـا
وكنَّـا حيـن يـأخذنـا ولِـي بطغيان ندوس لـه الجبينـا
وكنّـا حيِـن يـرميـنا أنـاس نـؤدّبهم أبـاةً قـادرينـا
ومـا فتِـئ الزمـان يـدور حتى مضى بالمَجد قوم آخرونـا
وأصبح لا يرى في الركب قومـي وقد عـاشوا أئمته سنينـا
إذًا أكثر من ألف ومائتي سنة والأمة الإسلامية أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب، ولعله يكفي مثالاً قصة هارون الرشيد عندما قال وهو يخاطب سحابة في السماء: "أمطري حيث شئت، فسيجيء إليّ خراجك". هذا ما كان فى الماضي.
أما المستقبل، أما عن مستقبل هذه الأمة فبعض ما أخبرنا به رسول الله عن المعركة الظافرة الفاصلة مع اليهود على نهر الأردن كما حدد النبى : ((أنتم شرقية وهم غربيه، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله))، ومن دلائل نصر هذه الأمة فى آخر الزمان أيضًا نزول عيسى عليه السلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وتجمع المسلمين عليه، ومن دلائل النصر أيضًا قيادة المهدي لهذه الأمة فى آخر الزمان كما ورد فى عدد من الأحاديث الصحيحة، وأيضًا من دلائل النصر قول النبي : ((أمتى كالغيث لا يدرى أوله خير أو آخره))، فأوله خير وحقّ وعدل، وآخره خير وحق وعدل، أوله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وآخره عيسى ابن مريم والمهدي الذي يملأ الدنيا قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا، إذًا لا يجوز أن نقارن لحظة معينة من عمر التاريخ وننسى الماضي كله والمستقبل كله، فهذه أمة منصورة بإذن الله عز وجل، وتسلط الكفار فى هذا الوقت بقدر من الله ولحكمة من الله، هو تسلط مؤقت، ودين الله غالب وتحقق ما وعدنا به رسولنا لا شك فيها عندنا، وهو جزء من عقيدتنا، ولا بد أن يتحقق قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
|