.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

خطبة استسقاء 28/2/1426هـ

186

الرقاق والأخلاق والآداب

آثار الذنوب والمعاصي

سعود بن إبراهيم الشريم

مكة المكرمة

28/2/1426

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- سنة الابتلاء. 2- نعمة المطر. 3- تقدير الله على العباد. 4- شؤم الذنوب والمعاصي. 5- ضرورة التوبة والاستغفار. 6- دعاء.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ بها المعتَصَم، ومنها الرِّبحُ والمغنَم، وبسبَبِها يدفع الله البلاءَ والمغرم، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].

أيَّها النّاس، الابتلاءُ سنّةٌ ربانيّة ماضِية، يقلِّبها الله بين عباده في الخير والشرّ؛ ليبلُوَهم أيعبُدون ويشكرون أم يجحدُون ويكفرون، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].

ألا إنَّ مما يبلو الله به عبادَه نزولَ القطر من السماء لتصبِحَ الأرضُ مخضرَّة، فيُحيِي الله به بلدةً ميتًا، ويسقيَه مما خلَق أنعامًا وأناسيَّ كثيرًا، بل جعَل البارِي سبحانه مِنَ الماءِ قِوامَ حياةٍ للناسِ، فقَد ذكرَه سبحانه على وجه الامتنان بقوله: وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، وقوله: أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]، وقوله: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28]، وقوله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:48-50].

عبادَ الله، أَلا إنَّ مِن حِكمةِ الله تعالى وعِلمِه بعبادِه أن يقدِرَ عَليهم القَطرَ والرِّزق مِن السَّماءِ؛ ليَتوبَ تائب ويستغفِرَ مُستغفر ويَؤوبَ شارِد، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27]، فينزِل الله المطرَ لأمّةٍ ويحجبه عن أخرَى، وينزِله على أرضٍ ويمنعه من أخرى، قال ابن مسعودٍ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: (ليس عامٌ بأكثرَ مطرًا من عام، ولكنَّ الله يصرِّفه كيف يشاء)، ثم قرءا الآية: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الفرقان:50][1].

نستغفِر الله، نستغفر الله، نستغفِر الله، اللهم إنّا نستغفرك إنّك كنتَ غفارًا، فأرسل السماء علينا مِدرارًا.

أيّها المسلمون، إنَّ ما يشاهَد في هذه الآونة من شحٍّ في الأمطارِ على بعضِ البلاد وقِلَّة في النبات إنما هو بسبَبِ الذنوب والمعاصِي التي تمنَعُ الرِّزقَ وتمحَقُ البركة، وإنَّ شؤمَ المعاصي ليعمُّ الصالحَ والطالحَ، حتى البهائِم والحشرات، فقد قال عكرمة: "دَوابُّ الأرضِ وهوَامهَا حتى الخنافِس والعَقارب يقولون: مُنِعنَا القطرَ بذنوب بني آدم" أخرجه ابن جرير في تفسيره[2]. فلِلَّه كم فشا الجهلُ بالدين وكِتمان الحقِّ وظهور الباطل، وكم قلَّ العدلُ والإنصاف والتّحكيم بشرعِ الله، لقد كثُر الهرج، وعمَّ الجدَل، وانتشرت الفواحِش، وذهبَت البركات، وتكدَّرت الحياة، وقلَّتِ الخيرات في كثيرٍ من المجتمعات إلاّ من رحِم الله وقليلٌ ما هم، وقد جاء في الحديثِ أنَّ مثل هذه المعاصي تمنَع القطرَ منَ السماء، ولا يغُرَّنَّ المرءَ ما يشاهِده بين ظهرانَي الكفّار منَ الأمطار والخيرات ثم يقول: ما علاقةُ منعِ القطر من السماء بالمعاصي وها هم الكفّار أكثر معاصٍ منا؟!

ألا فليعلَم أنَّما هي استدراجٌ وتعجيل لحظوظِ الدنيا، وليس بعد الكفر ذنبٌ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].

ولِذا ـ عبادَ الله ـ جعَل الباري جلَّ شأنُه إنزالَ المطر بكثرةٍ علامةَ الرضا على عبادِه ودلالة على استقامَتِهم على دينه سبحانه كما قال تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:16، 17]، والمعنى ـ عباد الله ـ على أحد التفسيرين: أنَّ الناس لو استقامُوا على طريقةِ الإسلام وعدَلوا إليها واستمرّوا عليها لأسقيناهُم ماء كثيرًا لنختَبِرهم ونبتليَهم؛ من يستمِرُّ على الهداية ممن يرتدّ على الغِواية.

نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا.

أيّها المسلمون، إنَّ ما نشكوه من شحٍّ في الأمطار وقِلّة بركةٍ فيها لهو بلاءٌ وعقوبة، أحوَجُ ما نكون فيهما إلى الرجوعِ إلى الله وكثرةِ التضرّع وبذلِ الاستغفارِ للكريم الرحيم وحدَه، إذ أوصى به نوحٌ قومَه بقوله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وأوصَى به هودٌ قومَه بقوله: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52]، وأَوصَى به صالحٌ قومَه بقوله: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، وأوصَى به شُعَيب قومَه بقولِه: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، ولَقَد أوصَى الله نبيَّه محمدًا بالاستغفارِ في قولِه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وجاء في الحديثِ الذي رواه أحمدُ والترمذيّ والنسائيّ أن النبيَّ قال: ((إنَّ المؤمن إذا أذنَب كانت نُكتَة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزَع واستغفَر صقِل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الرَّان الذي ذكرَه الله في كتابه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]))[3].

ألا فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، وأكثِروا من الاستغفار واللجوءِ إلى الكريم الغفّار؛ إذ لا ملجأَ من الله إلا إليه، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].

نستغفِر الله، نستغفر الله، نستغفِر الله، اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفّارًا، فأرسل السماءَ علينا مدرارًا.

الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إلهَ إلا الله، لا إله إلا الله، يفعَلُ ما يريد.

اللّهمّ أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانطين، اللّهمّ أنت الله، لا إله إلا أنتَ، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللّهمّ أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللّهم أغثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، واجعل ما أنزلتَ علينا قوّةً لنا وبلاغًا إلى حين.

اللّهمّ إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشَف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذّنوبِ ونواصينا إليك بالتّوبة، فأسقِنا الغيثَ يا ذا الجلال والإكرام، اللّهمّ اسقِنا غيثًا مغيثًا هينئًا مريئًا غدَقًا مجلِّلاً سحًّا طبَقًا، نافعًا غيرَ ضارّ، عاجلاً غير آجل، اللّهمّ لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا.

اللّهمّ إنّا خلق من خلقك، فلا تمنَع عنّا بذنوبنا فضلك، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا هدم ولا بلاءٍ ولا غرق، اللهم لتُحيِيَ بها البلادَ وتسقي بها العبادَ ولتجعلَها بلاغًا للحاضر والباد.

سبحان ربِّك ربِّ العزة على ما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.

نستغفِر الله، نستغفِر الله، نستغفِر الله، اللّهمّ إنا نستغفِرك إنك كنت غفّارًا، فأرسل السماءَ علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموالٍ وبنين، واجعل لنا جنّاتٍ واجعل لنا أنهارًا.



[1] أخرجه عنهما مفرقًا ابن جرير في تفسيره (19/22).

[2] جامع البيان (2/55)،

[3] مسند أحمد (2/297)، سنن الترمذي: كتاب التفسير (3334)، سنن النسائي الكبرى (10251) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الزهد (4244)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2787)، والحاكم (3908)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2469، 3141).

 

الخطبة الثانية

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً