لما نجى الله خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النار وجعل قومه هم الأسفلين أوحى إليه أن يهاجر ويهجر قومه فقال: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، ثم دعا: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ [الصافات:100]، يعني ولدًا ينفع الله به في حياته وبعد مماته؛ خاصة بعدما أيس من قومه ولم ير فيهم خيرًا، فاستجاب الله دعاء خليله، وجاءت البشرى من السماء بغلام حليم، فولدت له زوجه هاجرُ إسماعيلَ، ثم هاجر بإسماعيل وهاجر إلى مكة، وكان ما كان من خبر ماء زمزم.
ولما شبّ الغلام وبلغ سنًا يكون في الغالب أحب ما يكون إلى والديه لذهاب مشقته وإقبال منفعته أُري أبوه الخليل عليه الصلاة والسلام في المنام ـ ورؤيا الأنبياء وحي ـ أنه يذبح بِكره ووحيده إسماعيل الذي جاءه بعد كِبر سن، فأخبر ولده: قَالَ يٰبُنَىَّ إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ [الصافات:102]، فإن أمر الله لا بد من تنفيذه، فجاء الجواب من الابن البار الصابر المحتسب الراضي بما أمر الله: يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ [الصافات:102]، وامض لما أراك الله، سَتَجِدُنِى إِن شَاء ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [الصافات:102].
فلما أسلما أمرهما لله واستسلما لأمره وتَلَّ الأب ابنه لجبينه وصرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يرى وجهه حين يذبحه جاء الوحي من السماء: أَن يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا [الصافات:104، 105]، وفعلتَ ما أُمرتَ به، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ [الصافات:105] من عبادنا، فنصرف عنهم المكاره والشدائد، ونجعل لهم من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.
إِنَّ هَـٰذَا البلاء لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ [الصافات:106]، الواضح الذي تبين به صفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكمال محبته لربه وخُلَّته، فإن إسماعيل عليه الصلاة والسلام لما وهبه الله لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أحبه الخليل حبًا شديدًا، والخُلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة، ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلب الخليل بابنه ولم تكن لخليله أراد تعالى أن يصفّي ودّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه، فلما قدّم حب الله تعالى وآثره على هواه وعزم على ذبحه وزال ما في القلب من المُزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال: إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:106، 107]، أي: صار بدله ذِبح من الغنم عظيم ذبحه إبراهيم، فكان عظيمًا من جهة كونه فداءً لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانًا وسنة إلى يوم القيامة.
لقد أصبح ذبح الأضاحي قربانًا إلى الله يوم النحر، سنة وشعيرةً في دين نبينا محمد ؛ وهو الذي قال الله له ولأمته: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4]، فلم يكن صلوات الله وسلامه عليه يدع الأضحية، وأقام بالمدينة عشر سنين يضحي، وكان يقول يوم النحر كما في الصحيحين: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا))، وقال كما في البخاري عن أنس: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين))، بل جاء عنه أنه قال: ((من كان له سَعَة ولم يُضَحِّ فلا يقربن مُصلانا)) رواه ابن ماجه وغيره وحسنه الألباني، فالأحوط للمسلم أن لا يترك الأضحية مع قدرته عليها، امتثالاً لأمر الله تعالى واقتداء بالنبي .
وفي الأضحية إحياء لسنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفيها التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء، فإن الله تعالى لن يبلغ مرضاتَه لحوم هذه الأضاحي ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى من عبده ومحبته له والتقرب إليه بما يحب. وفي الأضحية التوسعة على الأهل والمساكين والإهداء إلى الأقارب والجيران، ثم إن إراقة الدم مشروعة في جميع الملل مما يدل على أهميته، وأنه من أجلّ الطاعات التي اقتضت أهميتها أن تكون مشروعة في كل ملة، كما قال تعالى: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ [الحج:28]، قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل".
ومن المعلوم في شرعة الإسلام أن الصلاة أعظم العبادات العملية، وهي عماد الدين، وقد جاء الذبح قرينًا لها، للتنبيه على أنهما من أفضل القربات وأجلها، يقول تعالى: فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ [التكاثر:2]، ويقول جل شأنه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163].
وأول ما يفعله من أراد الأضحية أن يمسك عن الأخذ من شعره وأظفاره وبشرته حين تدخل عشر ذي الحجة؛ أو من حين نوى إن كانت العشر قد دخلت، فلا يجوز له أخذ شيء من ذلك.
ويشترط في الأضحية أن تكون مما عينه الشارع، وهو الإبل والبقر والغنم، وأن تبلغ السن المعتبرة شرعًا؛ وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، وستة أشهر في الضأن.
ويشترط فيها أن تكون سالمة من العيوب، فلا تجزئ العَوْراء البَيِّن عَوَرُها، ومن باب أولى العمياء، ولا المريضة البين مرضها الذي يُقعدها عن الرعي، ولا العرجاء البين ظَلَعها، ولا الهزيلة التي لا تُنْقِي أي: لا نِقْي لها؛ والنّقْيُ المخّ. وتُكره العَضْباء التي قطعت أذنها أو كسر قرنها، والبتراء التي قطع ذنبها أو بعضه، والهَتْماء التي سقطت ثناياها.
والحاصل أن المسلم ينبغي له أن يُعنى باختيار الأضحية، فيحرص على أكمل الأضاحي في جميع الصفات، وكلما كانت الأضحية أغلى وأكمل فهي أحب إلى الله وأعظم لأجر صاحبها، قال شيخ الإسلام: "والأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقًا" اهـ.
ولقد كان المسلمون في عهد رسول الله يغالون في الهدي والأضاحي، ويختارون السمين الحسن، قال أبو أمامة بن سهل: كنا نُسَمِّن الأضحية في المدينة، وكان المسلمون يُسَمِّنون. رواه البخاري.
وتسمين الذبيحة من تعظيم شعائر الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ [الحج:32].
ومما يتعلق بالأضحية من الأحكام أن الأصل فيها أن تكون عن الحي، ويدخل فيها الميت تبعًا، وإن استقل الميت بأضحية فلا بأس.
والهدي النبوي أن الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته، أما ما يفعله بعض الناس من التباهي بالأضاحي وتبخيل من أدى السنة فخطأٌ ينبغي الحذر منه، روى الترمذي وابن ماجه بسند صححه الألباني عن عطاء قال: سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله ؟ قال: كان الرجل في عهد النبي يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون، ثم تباهى الناس فصاروا كما ترى.
وروى ابن ماجه أيضًا بسند صحيح صححه الألباني عن أبي سَرِيحة رضي الله عنه قال: حملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت من السنة، كان أهل البيت يُضحون بالشاة والشاتين، والآن يُبَخِّلنا جيراننا. قال الشوكاني بعدما ذكر كلامًا حول العدد الذين تجزئهم الشاة: "والحق أنها تجزئ عن أهل البيت، وإن كانوا مائة نفس كما قضت بذلك السنة" اهـ.
ويسمي المضحي حال الذبح ويكبّر، ويستقبل بذبيحته القبلة حال الذبح، وليراع الإحسان إلى ذبيحته، بأن يُحِد شفرته، وأن لا يذبح أختها أمامها، والسنة أن يأكل منها ويهدي ويتصدق، ولا يجوز أن يعطي أجرة الجزار منها.
ووقت ذبح الأضحية بعد صلاة العيد، فإن ذبح قبل الصلاة فلا خلاف أنها شاة لحم، ويذبح بعد الصلاة أخرى مكانها بنص النبي ، والسنة أن يكون الذبح بعد الفراغ من الخطبتين، لحديث جرير بن عبد الله البَجْلي عند الشيخين أن النبي صلى ثم خطب ثم ذبح، ويستمر ذبح الأضاحي إلى غروب شمس آخر أيام التشريق.
وأخيرًا، ينبغي أن يعلم المرء أن الأضحية شعيرة واحدة مما يعظَّم الله به يوم النحر الذي هو أعظم الأيام عند الله تعالى، كما جاء بذلك الخبر عن النبي رواه أبو داود بسند صححه الألباني، ولعل من الحكمة في ذلك أنه يجتمع فيه من العبادات ما لا يجتمع في غيره، وفيه تجتمع أهم أعمال الحجيج، ففيه يرمون جمرة العقبة، ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة، ويحلقون رؤوسهم ويذبحون هداياهم ويبقون في منى، أما غير الحجاج فإنهم يصلون العيد، ويذبحون أضاحيهم، ويكبرون ويحمدون.
|